بعدما ضربت أمواج الفيضانات العاتية مدينة درنة الليبية قبل نحو أسبوعين إثر الإعصار دانيال، فرضت قوات شرق ليبيا التي تسيطر على المدينة إجراءات أمنية مشددة، وبوجه خاص أمام المساعدات وفرق الإنقاذ القادمة من غرب ليبيا ما تسبب في تأخر تقديم المساعدات لمنكوبي الفيضانات.
وسجلت بي بي سي نيوز عربي شهادات من داخل المدينة المدمرة للأيام الأولى للكارثة، وصفت استجابة قوات خليفة حفتر الأولية بـ"الضعيفة"، والتي ربما ساهمت في زيادة أعداد الضحايا.
"وضع حفتر ورجاله درنة تحت رقابة مشددة، لا أحد ولا شيء يدخل المدينة دون موافقتهم"، هكذا قالت إحدى موظفات الإنقاذ بالهلال الأحمر الليبي في شهادتها لبي بي سي عن الأيام الأولى للإغاثة.
فقدت السيدة ثلاثة من أفراد عائلتها في الفيضانات المدمرة التي ضربت المدينة الساحلية، وهي تعمل الآن في الإنقاذ ضمن أطقم الهلال الأحمر الليبي في درنة.
كانت السيدة، التي رفضت ذكر اسمها خوفا من ملاحقتها أمنيا، واحدة من عمال الإنقاذ القلائل الذين استطاعوا العمل في المدينة منذ اليوم الأول، لأن حكومة شرق ليبيا "لم تثق إلا في الهلال الأحمر الليبي لدخول درنة" بحسب ما قالت.
لكن سرعان ما أدرك الجميع أن الكارثة أكبر من قدرات الهلال الأحمر الليبي وحده، فقد كانوا – بحسب ما قالت – "في حاجة لأي مساعدة يمكنهم الحصول عليها أمام تلك المدينة".
لاتزال الحصيلة الفعلية لضحايا الفيضانات التي عصفت بمدينة درنة الليبية مطلع الأسبوع الماضي غير معروفة حتى الآن.
ويتحدث مسؤولون في حكومة الوحدة الوطنية التي تعمل من شرق ليبيا عن نحو 4 آلاف قتيل وأكثر من 20 ألف مفقود، وتتوقع منظمات دولية أن ترتفع هذه الحصيلة بعدما جرفت الأمواج عددا غير معروف من الضحايا إلى البحر.
فوضى
وصفت موظفة الإغاثة بالهلال الأحمر الليبي الأيام الأولى للكارثة بالـ "فوضوية"، حيث بدا أن "رجال الجيش الليبي لا يملكون الخبرة الميدانية الكافية للتعامل مع أزمة بهذا الحجم"، وفي الوقت نفسه لا يسمحون لهيئات أخرى بالعمل أو للمواد الإغاثية بالدخول للمدينة دون موافقتهم.
وبعدما هدأت العاصفة، تعالت نداءات الاستغاثة من الناجين جراء نقص شديد في المواد الغذائية ومياه الشرب والوقود.
فخرجت آلاف القوافل التي تحمل مواد إغاثية من الغرب لمساعدة الشرق المنكوب في مظهر نادر للتضامن والوحدة الليبية، بعدما مزقت الحرب أوصال البلد الأفريقي على مدار أكثر من 12 عاما.
إلا أن هذا التضامن اصطدم بالقيود الأمنية التي خلقتها الاختلافات السياسية.
تعرضت قوافل المساعدات المرسلة من الغرب للتفتيش الدقيق الممتد لساعات أو حتى أيام "بحثا عن أسلحة يُخشى تهريبها للمدينة" من قبل قوات الجيش بحسب الشهادات التي حصلنا عليها.
تحدثت بي بي سي لاثنين من قادة قوافل مساعدة جاءوا من الغرب الليبي، أحدهم هو عبد المنعم خريشة الذي تحدث إلينا بفخر شديد عن كميات المواد الإغاثية التي استطاع جمعها من طرابلس غربي ليبيا.
بدأ خريشة حديثه عن التضامن الكبير الذي وجده بين أهالي طرابلس تجاه "إخوانهم في الشرق" كما وصفهم فقال "فرقتنا الحرب وجمعتنا درنة".
استطاع خريشة جمع عشرات الأطنان من المواد الغذائية والدواء والخيام والوقود من أهالي طرابلس، وسار بها على الطرقات الغارقة حتى وصل درنة.
قال خريشة "استوقفنا رجال الجيش الليبي قبل مداخل المدينة، وأخذوا منا المواد التي كنا نحملها".
تجمع قوات شرق ليبيا، المسؤولة عن أمن المدينة، المواد الإغاثية من القوافل القادمة من الغرب، ويتم تخزينها في مخزنين بمدينتي بنغازي والمرج، حسب خريشة.
تخضع المواد الإغاثية لعمليات تفتيش دقيق قد تستغرق ساعات أو أيام من قبل الجيش مما قد يعطل توزيعها.
ويناشد خريشة الجيش الليبي بفتح المجال أمام المنظمات الأهلية "صاحبة الخبرة الميدانية" للمساعدة في إنقاذ أهالي درنة.
تحدثت بي بي سي كذلك لمتطوع كان قادما ضمن قافلة مساعدات من مدينة الزاوية غربي البلاد، لم يستطع كذلك الدخول للمدينة فاختار طريقا آخر.
يقول المتطوع: "مُنعنا من الدخول للجانب الشرقي من المدينة يوم الثلاثاء، بعد يومين من الإعصار، فاخترنا التوجه لمدينة طبرق المجاورة حيث تنزح العائلات من درنة لتوزيع المساعدات التي نحملها".
المتطوع الذي رفض كذلك ذكر اسمه خوفا من الملاحقة قال إن عددا كبيرا من الحاويات التي كانت تحمل موادا إغاثية اصطفت لساعات طويلة على مداخل المدينة تنتظر الدخول خلال الأيام الأولى التي تلت الفيضانات.
درنة الثائرة
اكتسبت درنة شهرتها كمدينة "للثائرين"، حيث كانت من أولى المدن التي خرجت على حكم الزعيم الليبي السابق معمر القذافي في 2011. وبعد حصار لثلاث سنوات وقتال عنيف مع مسلحين يدينون بالولاء لتنظيم الدولة الإسلامية، سيطر عليها حفتر وقواته في 2018. لعقود، أهُملت البنية التحتية في درنة، كغيرها من المدن الليبية، فتدهورت مدارسها ومستشفياتها وطرقها، وهو ما ساهم في وصول عدد الضحايا لأعداد "غير مسبوقة". ولهذا فسر أحد أهالي المدينة الذي تحدث لبي بي سي تأخر وصول المساعدات ومواد الإغاثة لأيام فقال "كنا ولا زلنا نُعاقب". ويضيف الشخص ذاته إنه بينما يسمع سكان درنة أن المساعدات تصل بآلاف الأطنان، يظلون لأيام يتضورون جوعا. فكما قال ساكن المدينة :"كانت الأمهات يتعاركن للحصول على قطعة بسكويت أو زجاجة مياه، والمساعدات على أبواب المدينة لا تدخل".
"لا تغطية صحفية"
مأساة الناجين في درنة لم تكن مسموعة بالشكل الكافي خلال الأيام الأولى، وهو ما يرجعه الصحفي من طرابلس أحمد الخميسي إلى القيود التي فرضت على الصحفيين أثناء تغطية الكارثة.
يحكي الخميسي كيف استطاع الدخول لدرنة فيقول "دخلت إلى المدينة بصعوبة شديدة وبعد الكثير من الاتصالات بالمقربين من حفتر والجيش الليبي، قالوا لنا إن بدء تحلل الجثث تحت الركام يمثل خطرا صحيا على المتواجدين في المدينة".
إلا أن الصحفي الآتي من طرابلس لا يعتقد أن هناك تعمدا لإيذاء أهالي درنة، بل الأمر يرجع لضعف الحكومة التي تحكم شرق ليبيا.
فقال الخميسي: "أزمة درنة أظهرت هشاشة الدولة في الشرق، فهناك قصور كبير في إنقاذ الناجين وانتشال الجثث واستقبال المساعدات والتنسيق بين جهود الإغاثة".
بصيص أمل
استطاع عدد من المتطوعين والقوافل الإغاثية دخول المدينة في الأيام التالية، وبدأت المواد الإغاثية تصل لسكان درنة برغم استمرار الشكوى من غياب التنسيق.
تحدث إلى بي بي سي النعمان علي، أحد سكان مدينة درنة، أثناء وجوده في أحد مراكز توزيع المساعدات التي أقيمت مؤخرا في الجانب الشرقي من المدينة.
فقال "إن المواد الإغاثية بدأت تصل، نحتاج مساعدة أكبر، لكننا ممتنون".
نفى المتحدث باسم الهلال الأحمر الليبي أسامة علي منع دخول أو عمل أي منظمة إغاثية أو متطوع في درنة، وقال إن عمليات الإنقاذ والإغاثة تتم بالتنسيق مع الهلال الأحمر الليبي.
حاولت بي بي سي التواصل مع قوات شرق ليبيا للتعليق على تلك الادعاءات، لكن دون الحصول على رد.
بدأت تكتسب جهود الإغاثة الدولية زخما، فقد أرسلت مصر وتركيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا فرقا للإنقاذ وانتشال الجثث، كما رصدت كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا مساعدات بملايين الدولارات لنجدة "درنة" المنكوبة.
التعليقات