تعيد حرب غزة منطقة الشرق الأوسط والصراعات فيها إلى واجهة العالم وسط مخاوف من توسع الحرب وزيادة الاستقطاب العالمي، وصولاً لخلافات بين الحليفين الأبرز الولايات المتحدة وإسرائيل، حول سيناريو ما بعد الحرب التي لم تتوقف منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي سوى لبضعة أيام.
ورغم الدعم الأمريكي السياسي والعسكري لإسرائيل منذ اليوم الأول للحرب، إلا أن الخلافات تتجدد بين الرئيس الأمريكي "الديمقراطي" جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي "اليميني" بنيامين نتانياهو، كان آخرها خلاف حول حل الدولتين.
وفي وقت أعلنت فيه إسرائيل أن عدد قتلاها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول بعد هجوم حركة حماس بلغ نحو 1200 قتيل، فإن أعداد من راحوا ضحية الرد الإسرائيلي في غزة تجاوز 26 ألف فلسطيني غالبيتهم من الأطفال والنساء، حسب وزارة الصحة الفلسطينية.
ولم تنجح ضغوط دولية شعبية ورسمية في وقف إطلاق النار، كان من أبرزها توجه دولة جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، متهمة إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في القطاع المحاصر منذ ما يزيد عن 16 عاماً.
وناهيك عن الضغط الشعبي الأمريكي بمظاهرات مستمرة في ولايات مختلفة تدعو لوقف إطلاق النار، إلا أن الإدارة الأمريكية لم تعلن رسمياً عن أي مطلب بوقف فوري لإطلاق النار يضغط على إسرائيل.
في التاسع من كانون الثاني (يناير) أورد البيت الأبيض في تصريح عبر موقعه الرسمي أن بايدن ناقش مع نتانياهو في مكالمة هاتفية "رؤيته لسلام وأمن أكثر استدامة لإسرائيل، يجعلها مندمجة كلياً في المنطقة، من خلال حل الدولتين مع ضمان أمن إسرائيل".
وتنقل وكالة رويترز عن البيت الأبيض أن "مكالمة بايدن مع نتانياهو كانت الأولى منذ شهر، وعندما طلب من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي توضيح ما إذا كان نتانياهو يعارض قيام دولة فلسطينية مهما كان نوعها، لم يرد مكتبه على الفور".
بينما صرح نتانياهو بحسب ما نقلت رويترز عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي: "بعد تدمير حماس يجب أن تحتفظ إسرائيل بالسيطرة الأمنية على غزة لضمان أنها لن تشكل تهديداً، وهو مطلب يتعارض مع مطلب السيادة الفلسطينية".
ماذا يعني خلاف بايدن و نتانياهو؟
يذهب بعض المحللين السياسيين إلى أن الخلاف بين بايدن ونتانياهو جوهري قائم على إعاقة الأخير لحل تطرحه الحكومة الأمريكية بقيادة الديمقراطيين وهو إقامة دولة فلسطينية وإن كانت منزوعة السلاح، بينما يرى آخرون أن هذا الخلاف قد لا يعني شيئاً أمام الدعم الأمريكي اللا متناهي لإسرائيل، ويرقى لتحويلها من وسيط في القضية إلى شريك ضد الفلسطينيين في الحرب.
يقول ريتشارد جودستاين، المستشار السابق للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، في حديثه لـ بي بي سي إن بايدن "داعم حقيقي لحل الدولتين، بينما لا يبدو نتانياهو كذلك، وهذا الخلاف يعني الكثير، إذ أنه يجعل الوصول للسلام أصعب".
وبحسب جودستاين، قد يكون من الممكن التوصل إلى حل مع نتانياهو لأنه قد يوافق على دولة للفلسطينيين "منزوعة السلاح". وصرح بايدن بأن "الحلول ممكنة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة"، وقد يشمل الحل إقامة دولة فلسطينية "غير مسلحة".
لكن في حديثه عن الخلاف بين بايدن ونتانياهو، قال الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي لبي بي سي إن "المشكلة تكمن في مشاركة الولايات المتحدة في العدوان الإسرائيلي"، وبحسبه فإن الخلاف لا يعدو كونه "خيبة أمل" مصابة بها واشنطن من إسرائيل "لأنها فشلت في تحقيق أهدافها المعلنة ولم تنجح في كسب المقاومة [حركة حماس]، ولا السيطرة على قطاع غزة، ولا في استعادة الأسرى [المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس]".
ويضيف: "الحديث عن حل الدولتين دون إرفاق ذلك بوقف إطلاق النار فوراً وإنهاء الاستيطان والاحتلال، مجرد غطاء لما يجري على الأرض".
يعود اقتراح تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى دولتين مستقلتين، واحدة عربية فلسطينية وأخرى يهودية مع تدويل القدس، إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 181/أ الصادر عنها عام 1947، وجاء القرار بعد أن أحالته المملكة المتحدة، التي منحت لليهود حق إقامة دولتهم في فلسطين، إلى الأمم المتحدة.
اتفاقية أوسلو في عام 1993 التي وقعها رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، ونجم عنها اعتراف الطرفين ببعضهما، رسمت معالم لحل الدولتين، لكن على أرض الواقع لم تعترف إسرائيل بدولة مستقلة للفلسطينيين، وامتد الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المنصوص عليها للفلسطينيين ضمن الاتفاق.
ويشير نورمان رول، الرئيس السابق لعمليات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA، في تصريحه لبي بي سي إلى أن إدارة بايدن تتمسك بحل الدولتين، "إذا أردنا إحلال السلام والأمن في الشرق الأوسط".
وبالرغم من أن الوصول إلى حل يعتمد أكثر على " المسار السياسي لإسرائيل والفلسطينيين في الأسابيع المقبلة"، وفق رول، إلا أن واشنطن مستمرة "في الضغط على الحكومة الإسرائيلية لحملها على تغيير وجهات نظرها"، كما يقول.
وفي وقت يرى فيه رول أن "إزاحة حماس، التي تدعو لإزالة إسرائيل، من شأنه أن يساعد في عملية السلام"، يجد البرغوثي أن حديث إدارة بايدن عن حل الدولتين "فقط ملهاة لإقناع دول عربية بالتطبيع مع إسرائيل...لخدمة مصالح إسرائيل في تصفية القضية الفلسطينية".
حركة حماس قالت في وثيقة تحدثت عن أسباب إقدامها على هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول على الجانب الإسرائيلي: "أكد المسؤولون الإسرائيليون رفضهم القطعي لقيام دولة فلسطينية، وقبل شهر من طوفان الأقصى [تسمية حماس لهجوم السابع من أكتوبر]، حمل رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو في خطابه أمام الأمم المتحدة في شهر سبتمبر/أيلول 2023 خريطة لكامل فلسطين التاريخية، بما فيها الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد لونت كلها بلون واحد وعليها اسم إسرائيل".
وبحسب البرغوثي، فإن"الدعم الأمريكي لإسرائيل لم يتوقف ولم يتغير ولن يتغير، دعم عسكري مطلق، والولايات المتحدة الآن تشن حرباً على اليمن وعلى العراق وعلى سوريا من أجل عيون إسرائيل...وبالتالي لا يمكن بعد كل ما جرى الوثوق بالولايات المتحدة كشريك [لعملية السلام]".
وتصف صحيفة تايمز أوف إسرائيل الخلاف بين نتانياهو وبايدن بأنه "لعبة خطيرة في الصراع على حل الدولتين"، وترى أن تصاعد الخلاف "حول إمكانية إقامة دولة فلسطينية لا يساعد الجهود الحربية الإسرائيلية ضد حماس"، لكن مع ذلك تجد الصحيفة أن الدعم الأمريكي لإسرائيل ثابت.
وتنقل الصحيفة عن إلداد شافيت، الباحث في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب قوله "لا أعتقد أن بايدن يريد أن يكون في أزمة مع إسرائيل".
تعليقاً على الخلاف قال الوزير الأسبق يائير لابيد عبر حسابه على منصة اكس، تويتر سابقاً: "كوزير للخارجية ورئيس للوزراء، كان لدي العديد من الجدالات، بعضها صعب، مع الأميركيين. لم أقم بإدارتها مطلقاً في المؤتمرات الصحفية وأمام الكاميرات. إن العلاقات مع الولايات المتحدة مهمة للغاية بحيث لا يمكن تحويلها إلى خلافات عامة هدفها الوحيد هو تحقيق مكاسب سياسية... والقيام بذلك في زمن الحرب، عندما تقف الولايات المتحدة إلى جانبنا...".
وتشير صحيفة الغارديان إلى أن تصريحات نتانياهو ليست جديدة، ففي عام 2009 قال إن "الدولة الفلسطينية يمكن أن توجد نظرياً إلى جانب إسرائيل، لكن الشروط كانت صارمة للغاية لدرجة أنها لن تعتبر دولة ذات سيادة، ليس لها جيش أو سيطرة على مجالها الجوي".
وتضيف الصحيفة أنه في عام 2017 صرح نتانياهو بأن "الفلسطينيين يمكن أن يكون لديهم دولة ناقصة، كما تحدث الساسة الإسرائيليون عن الحفاظ على السيطرة الأمنية على كل الأراضي".
مستقبل بايدن ونتانياهو في ظل حرب غزة
تعصف الخلافات الداخلية بحكومة نتانياهو، الذي يواجه تهماً بقضايا فساد قد تودي به إلى السجن في حال خسر منصبه، فيما تتجدد محاولات في الكنيست الإسرائيلي لحجب الثقة عن حكومة نتانياهو.
وتستمر مظاهرات الإسرائيليين بالضغط على نتانياهو للإفراج عن الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس حتى لو كان الحل عبر وقف إطلاق النار، بعد دخول الحرب شهرها الرابع دون تحقيق الحكومة الإسرائيلية أياً من أهدافها المعلنة.
وتشترط حماس لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، وقف الحرب والإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية والانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة.
ويرى دانيال ليفي عضو مجلس إدارة مؤسسة ليشتنشتاين لحوكمة الدولة في مقال نشره عبر صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن نتانياهو ركز "على معاداة إدارة بايدن وقطر بشكل غير مبرر وتسليط الضوء على عائلات الرهائن الإسرائيليين أكثر من التركيز على حملة منضبطة وفعالة لإنقاذ الرهائن...".
ويوضح البرغوثي أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تقرر رحيل نتانياهو، فالأمر يعود للمؤسسة الإسرائيلية "لكنها طبعاً تفضل أن يذهب نتانياهو لأنه أصبح عائقاً ومعطلاً".
وأما بايدن فإنه يواجه هو الآخر احتمالية خسارة الانتخابات الرئاسية الأمريكية بعد احتجاجات شعبية واسعة ضد استمرار الحرب على غزة، وفق استطلاعات رأي أمريكية.
ويقول رول: "رغم وجود تقارير تفيد بأن نهج إدارة بايدن في حرب غزة قد كلفها دعم اليسار الأمريكي، إلا أنه لا يوجد حتى الآن دليل حاسم للانتخابات التي تجرى بعد عدة أشهر".
وتجري انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
وفي وقت يرى فيه جودستاين أن غالبية الإسرائيليين في الوقت الحالي "يريدون رئيس وزراء آخر غير نتانياهو"، يذهب جودستاين إلى أن خسارة بايدن للانتخابات الأمريكية بسبب عدم تصويت الأمريكيين من أصول عربية والأمريكيين الرافضين لسياسة بايدن في حرب غزة، قد يعني وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة.
ويقول: "أدرك أن الصور القادمة من غزة مروعة، لكنه في الواقع خيار بين بايدن الذي يدفع من أجل حل الدولتين...مقابل ترامب الذي كان ضد حصول الفلسطينيين على حقوق".
في حين يقول البرغوثي إن فكرة حل الدولتين التي يطرحها بايدن تتحدث عن "دولة بأنماط مختلفة، وهذا يمثل بالضبط تجاوباً مع خطة ترامب ونتانياهو، حتى لا تكون دولة بل كيان هزيل لا سيادة له ولا سيطرة على شيء".
واقترح ترامب خلال فترته الرئاسية الخطة المعروفة باسم "صفقة القرن" كخطة للسلام، رحب بها نتانياهو ورفضها الفلسطينيون، إذ قالوا إنها تسعى لفرض حكم إسرائيلي دائم على الضفة الغربية.
لكن البرغوثي يرى أن استمرار حرب غزة "يكلف بايدن احتمالية خسارة الانتخابات الرئاسية".
ويضيف: "ومع ذلك، فإن ما نراه هو تحالف استراتيجي عميق بين إسرائيل والولايات المتحدة وليس مجرد اتفاق عابر".
التعليقات