يتجه الناخبون الأتراك هذا الأسبوع لمراكز الاقتراع في انتخابات بلدية بإحدى وثمانين بلدية تشهد منافسة محتدمة بين الأحزاب.

وكان تحالف الشعب، الذي يضم حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه رجب طيب أردوغان وحليفه حزب الحركة القومية، قد فاز في الانتخابات البلدية السابقة، التي جرت في آذار (مارس) 2019، بعد منافسة شرسة مع أحزاب المعارضة الأخرى.

لكن تفكك التحالفات بين الأحزاب من جهة وحرب غزة من جهة أخرى، تضيف هذه المرة مزيدا من التحديات أمام الحزب الحاكم.

ويتساءل كثيرون عن سبب عدم قطع أردوغان علاقات بلاده مع إسرائيل رغم تصريحاته النارية التي تدين الحرب ورغم وصفه بنيامين نتانياهو بـ "الإرهابي الذي يجب محاسبته دولياً باعتباره مجرم حرب".

وكان نواب حزب السعادة التركي المعارض، قد قدموا مقترحاً يطالب فيه الحكومة بالتدقيق في حجم صادرات البلاد إلى إسرائيل منذ بدء حرب غزة، كما نشر متين جيهان، وهو أحد المؤثرين المعروفين في الوسط التركي، في صفحته على منصة إكس، نسخة من بيانات مسجلة في موقع Marinetraffic تبين حركة السفن حول العالم وتكشف أن 253 سفينة شحن توجهت من تركيا إلى الموانئ الإسرائيلية منذ اندلاع الحرب، ونالت هذه المنشورات أكثر من مليوني مشاهدة محدثة ضجة ونقاشاً على مواقع التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي تعرضت فيه سلاسل الوجبات السريعة والمقاهي في تركيا مثل ستاربكس وبرغر كينغ وماكدونالدز وغيرها لانتقادات كبيرة بعد هذه الحرب.

لكن الرئيس التركي أكد مراراً عدم نيته قطع علاقات بلاده مع إسرائيل رغم مواقفه الواضحة ضد حكومة إسرائيل من جهة، وعلاقاته الوطيدة مع أعضاء حركة حماس من جهة أخرى.

أردوغان
الرئيس التركي أردوغان يحضر مسيرة مؤيدة للفلسطينيين في إسطنبول، تركيا. 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2023

وفي أوائل شهر شباط (فبراير)، أعلن فاتح أربكان، رئيس حزب "الرفاه من جديد" التركي، ونجل رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان، انشقاقه عن "تحالف الجمهور" بقيادة أردوغان، في الانتخابات البلدية المرتقبة.

وكان لحزب "الرفاه الجديد" دورحاسم في فوز أردوغان على مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو في السباق الرئاسي في الانتخابات الأخيرة.

كما دعا نواب حزب السعادة التركي المعارض، وحزب الرفاه من جديد، وأحزاب معارضة أخرى، الحكومة التركية إلى فرض عقوبات على إسرائيل رداً على حرب غزة المستمرة منذ سبعة أشهر.

تركيا "لا تمتلك رفاهية القطيعة والجفاء مع إسرائيل"

يقول بشير عبد الفتاح، الخبير في الشؤون التركية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية لبي بي سي: "إن العلاقات التركية الإسرائيلية تتسم بخصوصية شديدة، فمنذ عام 1948، رعت واشنطن هذه العلاقات بين البلدين، فضلاً عن أن تركيا لا تمتلك رفاهية القطيعة والجفاء مع إسرائيل لأن العلاقات متشابكة بينهما تجارياً وعسكرياً واستخباراتيا وأمنياً واقتصادياً".

ويوضح يوسف كاتب أوغلو، الخبير السياسي والاقتصادي التركي والعضو في حزب العدالة والتنمية، لبي بي سي، سياسة تركيا التي يصفها بالمتوازنة وغير المبنية على الشعبوية: " صحيح أن موقف تركيا كدولة ورئاسة و كحزب واضح من حرب غزة، ويعتبر الحكومة الإسرائيلية ورئيس وزرائها بنيامين نتانياهو إرهابيين ويجب محاسبتهم دولياً، لكن ليس بالضرورة قطع العلاقات معها بشكل مطلق، لأن تركيا لا تريد أن تصبح طرفاً في هذا الصراع، ولا أن تتورط في هذه الحرب، تماماً كما فعلت في حرب روسيا وأوكرانيا، لكن في الوقت نفسه، لن تتنازل عن مواقفها الداعمة للفلسطينيين".

لكن، جواد غوك، الباحث السياسي التركي المعارض يقول لبي بي سي: "إن نواب ومسؤولي الحزب الحاكم؛ حزب العدالة والتنمية، لا يتوقفون عن إطلاق الهتافات والشعارات الرنانة الداعمة للفلسطينيين في غزة، في المنابر الإعلامية وخلال المسيرات الاحتجاجية التي ينظمها الحزب في تركيا، ولكن أفعالهم على أرض الواقع تثبت عكس أقوالهم".

ويوضح غوك: "عندما صعد حزب العدالة إلى السلطة لأول مرة، كانت صادرات تركيا إلى إسرائيل تصل إلى مليار و400 مليون دولار، لكن بعد مرور عشر سنوات، بلغت الصادرات 8 مليارات و900 مليون دولار أميركي، هذا يعني زيادة في الحجم التجاري بثمانية أضعاف. أي أنه لا يوجد أي تقليل في حجم الصادرات كما يدّعون، بل على العكس زادت النسبة في ظل تولي العدالة والتننمية الحكم".

ويعلق عبد الفتاح على التناقض بين ما يقوله الحزب الحاكم وبين ما يفعله على أرض الواقع بقوله: "ثمة تفاهم ضمني بين أميركا وإسرائيل وتركيا، أي أنه "يُسمح لتركيا بمساحة لانتقاد إسرائيل عبر الخطاب الإعلامي واتخاذ الاجراءات العقابية بالنسبة لإسرائيل بعيداً عن الاقتصاد والتعاون العسكري والأمني والاستخباراتي". موضحاً أن هذا ما تقوم به تركيا، "حيث تنتقد الحكومة الإسرائيلية، الأمر الذي تتفهمه إسرائيل والولايات المتحدة، لكن دون أن تترجم هذه الانتقادات إلى إجراءات قطيعة على المستويات العسكرية والأمنية والاستخباراتية".

ويقول كاتب أوغلو: "إن المطالبين بمعرفة حجم الصادرات التركية إلى إسرائيل واتهام الحكومة بتذبذب موقفها حيال حرب غزة، يريدون الاصطياد في المياه العكرة، لأن حزب السعادة نفسه يواجه الآن مشكلة متعلقة بضبط كمية صادرات كبيرة لأحد نوابه بشكل مباشر إلى إسرائيل تشمل مواد غذائية واستهلاكية".

ميناء اسكندرون (هاتاي) أحد أهم بوابات تركيا إلى البحار.
Getty Images

هل تتأثر شعبية أردوغان بسبب موقفه حيال حرب إسرائيل في غزة؟

يقول جواد غوك: "لا شك أن شعبية الرئيس وحزبه قد انخفضت، وخاصة بعد أن سّرب أحد نواب حزب السعادة جدولاً يبين حركة السفن التي تغادر موانئ تركيا إلى إسرائيل تحت أسماء دول مختلفة، والتي تبين أنهم يغيرون الوجهة إلى إسرائيل بعد أن تغادر السفن المياه التركية، وهذا يؤثر على مصداقية الحكومة وحزب العدالة والتنمية".

لكن وزارة التجارة التركية، تنفي التقارير التي تحدثت عن زيادة الصادرات إلى إسرائيل في فترة اندلاع الحرب منذ سبعة أشهر.

ويرى بشير عبد الفتاح، أن الانتخابات البلدية تحكمها اعتبارات داخلية محلية، أي أن الناخب التركي سيصوت بناء على الخدمات التي يمكن أن يقدمها مرشحو حزب العدالة والتنتمية أو مرشح أي حزب من أحزاب المعارضة.

ويوضح: "الناخب التركي لا يريد أن تخسر تركيا من أجل دعم الفلسطينيين، لذلك يرى أن الصيغة الحالية لسياسة الحكومة التركية معقولة جداً، وهي: انتقاد لاذع وشديد اللهجة لإسرائيل مع الإبقاء على العلاقات التي تستفيد منها تركيا وتبقيها على صلة جيدة بالولايات المتحدة والدول الغربية في الوقت نفسه".

ويقول جواد غوك: "اعتدنا على سماع خطابات أردوغان النارية في مناسبات عدة، لكن المواطنين يعرفون جيداً أنها مجرد خطابات للاستهلاك الإعلامي فقط ولن تنطلي عليهم هذه الادعاءات"، مضيفاً: "أن الحزب الحاكم يسيطر على كافة وسائل الإعلام في البلاد، ما قد يمكنهم من الدعاية لحزبهم وتضييق الخناق على الآخرين، وليس من المستبعد أن يفوزوا في الانتخابات المرتقبة واستعادة البلديات التي خسروها في عام 2019 وخاصة بلدية اسطنبول، وذلك بسبب ضعف أحزاب المعارضة وفشلها في توحيد صفوفها".

ومن المعروف أن الوضع الاقتصادي للبلاد يحتل أولوية بالنسبة للأتراك، فهل يتقلص عدد المستثمرين الأجانب في تركيا أو ينتابهم شعور بالقلق نتيجة الخطاب السياسي المتأرجح للمسؤولين الأتراك من جهة والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على بعض المسؤولين الأتراك لصلاتهم بحماس من جهة أخرى؟

يقول غوك: "إن حجم الاستثمارات الأجنبية انخفضت نسبياً بسبب الأزمة الاقتصادية في البلاد بالدرجة الأولى".

مما لا شك فيه، أن التدفقات الاستثمارية الخارجية مهمة جداً بالنسبة لتركيا، وقد ساعدت في تحقيق نهضة اقتصادية منذ صعود أردوغان للسلطة قبل عقدين من الزمن.

يقول عبد الفتاح لبي بي سي: "لا يمكن لتركيا أن تتجاهل أهمية الاستثمارات الخارجية، وكذلك الغرب، الذي لا يريد أن ينهار اقتصاد تركيا، لأنها لا تزال تعتمد على الأخيرة في مواجهة روسيا، وتتخذ منها حليفاً مهماً في استراتيجياتها في القارة الآسيوية والشرق الأوسط بالرغم من وجود خلافات بين أنقرة وواشنطن، فضلاً عن أن الدول الأوروبية أيضاً مستفيدة من انتعاش الاقتصاد التركي بمستوى معين، فانهيار الاقتصاد التركي يعني تدفق المزيد من المهاجرين الأتراك نحو أوروبا، ونمو عصابات تهريب البشر من دول الشرق الأوسط إلى أوروبا عبر تركيا، الأمر الذي لا تتحمله الدول الأوروبية، وبالتالي أعتقد أن مسألة تقليص الاستثمارات الأجنبية مستبعدة لأنه ليس من مصلحة الغرب".

ويقول يوسف كاتب أوغلو لبي بي سي: "ليس من الحكمة أن تقطع الدول علاقاتها التجارية والاقتصادية عند نشوب خلافات سياسية فيما بينهم. فما تعيشه تركيا من أزمة سياسية مع إسرائيل ليس من شأنه بالضرورة أن ينعكس سلبا على العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين. لقد شهدنا ذلك أيضاً خلال الأزمة السياسية الكبيرة بين تركيا ومصر، وكذلك كان الأمر مع سوريا ونظام الأسد، إذ أن العلاقات بين الشعوب والمصالح المشتركة لا يمكن قطعها تماماً".

ويضيف كاتب أوغلو: "من ناحية أخرى، تركيا لن تقطع علاقاتها مع إسرائيل لكنها خفضت مستوى العلاقات التجارية والاقتصادية، فلا بد من إبقاء القنوات بين البلدين مفتوحة، على الأقل من أجل الشركات التركية الموجودة في إسرائيل ولما يراد إرساله إلى الفلسطينيين داخل إسرائيل".

لكن، جواد غوك يشكك في تبريرات الحكومة ومؤيديها ويقول لبي بي سي: "هل من المعقول في هذه الظروف، حيث غزة محاصرة بشكل كامل، والحرب الدامية على القطاع من جميع الجهات، القول إن إسرائيل ستدخل هذه المواد من بترول خام مثلاً أو الحديد أو الاسمنت أو المواد الغذائية والاستهلاكية إلى غزة؟ جميعنا نرى عبر الشاشات كيف أن الفلسطينيين يستغيثون وينادون العالم من أجل المساعدات الإنسانية، بسبب نفاد تلك المواد، فكيف يمكننا تصديق أن هذه المواد مرسلة إلى غزة مثل إسرائيل؟".