إيلاف من الرباط: كانت السنوات العشر التي أمضاها إسلاميو حزب العدالة والتنمية المغربي على رأس الحكومة،(2011-2021)، أحد أبرز عناوين التعايش بين القصر والإسلاميين في المغرب في عهد الملك محمد السادس الذي أمضى 25 عاما في الحكم.

لكن لم يكن أحد يتوقع أن يستمر الإسلاميون طيلة هذه المدة على رأس الحكومة، فبخلاف العديد من الدول العربية لا سيما الجمهوريات، التي أنهت حكم الإسلاميين بعد "الربيع العربي"، بأسلوب القمع والسجن، فإن المغرب في ظل حكم الملك محمد السادس، اختار نهجا مختلفا، حيث ساير صعودهم الانتخابي، وانتظر "سقوطهم الطبيعي" في انتخابات سبتمبر 2021. فبعدما تصدروا الانتخابات في 2011 بـ105 مقاعد ، وفي 2016 بـ125 مقعدا، تقهقروا انتخابيا في 2021 إلى 12 مقعدا فقط من أصل 395 مقعدا في مجلس النواب.

الملك محمد السادس وولي عهده الامير مولاي الحسن مع حكومة عبد الاله ابن كيران

لفهم تدبير القصر لمشاركة الإسلاميين لابد من الوقوف على جملة من المعطيات التي تجعل التجربة المغربية فريدة.

أولا، تدرك الطبقة السياسية في المغرب أن الوصول إلى رئاسة الحكومة عن طريق الانتخابات، لا يعني الانفراد بالحكم. فالدستور المغربي يضع أسس ازدواجية السلطة التنفيذية بين الملك والحكومة. فالملك حسب الدستور، هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويرأس المجلس الوزاري، الذي يصادق على القوانين التنظيمية والتوجهات العامة لسياسة الدولة وهو الضامن لاستمراريتها وهو المسؤول الأول عن تدبير الشأن الديني. ومن جهة ثانية، فإن تصدر حزب ما للمشهد الانتخابي، يعني أيضا أن عليه التحالف مع أحزاب أخرى والتوافق معها على توجهات سياسية. فالنظام الانتخابي المغربي لا يسمح لأي حزب بالحصول على الأغلبية المطلقة.

وعلى المستوى الديني، فإن الإسلاميين المغاربة لا يمكنهم احتكار التحدث باسم الدين في العمل السياسي، فقد فهموا منذ الأحداث الإرهابية في 16 مايو 2003، بأنهم حزب سياسي وليس حزبا دينيا، وأن مجال اشتغالهم هو البرامج الانتخابية والتعبير عن المواقف السياسية والمشاركة في تدبير الشأن العام، ولهذا قام حزب العدالة والتنمية تحت ضغط سياسي بعد تلك الأحداث بإعلان الانفصال عن جناحه الدعوي ممثلا في حركة التوحيد والإصلاح، وأعلن أنه حزب سياسي يتنافس مع بقية الأحزاب في البرامج الانتخابية. كما أن الحزب يدرك أن الملكية في المغرب قائمة على المرجعية الإسلامية والملك يحمل لقب "أمير المؤمنين"، وهو الذي يرأس المجلس الأعلى للعلماء المختص بإصدار الفتوى، وهذه حقيقة لا ينازع فيها الحزب بل يدافع عنها.

ضمن هذا السياق السياسي والتنظيمي، كانت مشاركة الإسلاميين في الانتخابات لأول مرة في 1997، تحت جناح حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية التي كان يتزعمها الراحل عبد الكريم الخطيب، أحد أبرز قادة المقاومة ضد الاستعمار، والمقرب من القصر. وجرى التمهيد لهذه المشاركة بعد حوارات ولقاءات أشرف عليها إدريس البصري وزير الداخلية الراحل.

الملك محمد السادس لدى تعيينه الدكتور سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة

يروي مصطفى الرميد، الوزير السابق والقيادي في العدالة والتنمية، أن البصري طلب منه قبل هذا التاريخ، إعداد ورقة تحمل جوابا عن سؤال "ماذا يريد الإسلاميون في المغرب؟"، فاتصل بمختلف فصائل الإسلاميين وأعد وثيقة نشرها في الجريدة التي كان يديرها وتحمل اسمه "الصحوة"، بعد تسليمها إلى البصري.

في تلك الانتخابات كان الملك الراحل الحسن الثاني يستعد للتناوب التوافقي الذي سمح لأول مرة لليسار ممثلا في الاتحاد الاشتراكي، بقيادة الحكومة تحت رئاسة عبد الرحمن اليوسفي.ً و فهم حينها أن القصر كان يرغب في تحقيق التوازن السياسي المطلوب في هذا المنعطف السياسي الذي حمل اليسار لأول مرة لقيادة الحكومة.

وحين تولى الملك محمد السادس الحكم في 1999، بعد وفاة والده كان الإسلاميون يشكلون جزء من المشهد في البرلمان المغربي، ب9 مقاعد فقط، من أصل 325، (حسب دستور 1996) ورغم قلتهم إلا أنهم ما لبثوا أن ضاعفوا عددهم في انتخابات 2002، بحصولهم على 42 مقعدا. لكن العمليات الإرهابية في مدينة الدار البيضاء سنة 2003، شكلت امتحانا للحزب الذي اتهم بالمسؤولية الأخلاقية بسبب خطابه السياسي، وهنا طرحت خيارات أمنية أمام العاهل المغربي، من قبيل حل حزب العدالة والتنمية، والقطع مع تجربة الإسلاميين، وكان ممكنا السير في هذا التوجه، ولكن القرار النهائي كان هو الحفاظ على الحزب ضمن المشهد السياسي باعتباره يعكس توجها داخل المجتمع شريطة تغيير خطابه وانخراطه في رفض إرهاب الجماعات المسلحة، والقطع مع ازدواجية الخطاب.

ومع اندلاع الربيع العربي في 2011، استفاد الإسلاميون من انتعاشة سياسية كبيرة، وقد سجل القصر للأمين العام للحزب عبد الإله ابن كيران رفضه الخروج في مسيرات بعدة مدن مغربية في 20 فبراير 2011، دعت لها أوساط شبابية تطالب بالإصلاح على غرار دول عربية أخرى، وما لبث أن أعلن الملك محمد السادس في خطاب9 مارس 2011، عن خطة إصلاحات شاملة غير متوقعة، على رأسها تغيير الدستور،وإتاحة تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي يتصدر الانتخابات، وتعزيز صلاحيات الحكومة، ما ساهم في تنظيم انتخابات سابقة لأوانها، تمكن خلالها حزب العدالة والتنمية من تصدر الانتخابات في 25 نوفمبر 2011، وبالتالي عين الملك امين عام الحزب عبد الإله ابن كيران رئيسا للحكومة، لأول مرة.

وخلال هذه التجربة التي طبعها ابن كيران بشخصيته المندفعة، يمكن الوقوف على مكتسبين، الأول هو الاستقرار السياسي، الذي كسبه المغرب في وقت عاشت فيه عدة دول عربية اضطرابات مازالت تداعياتها مستمرة حتى اليوم، ثانيا، مكن وصول الإسلاميين المغاربة الى الحكومة من إظهارهم بأنهم حزب عادي براغماتي لا يشكل تهديدا بل هو جزء من المشهد السياسي.

وبعد انتخابات 2016، واصل الإسلاميون صعودهم بحصولهم على 125 مقعدا، وشكلوا أكبر كتلة نيابية، وعين العاهل المغربي من جديد ابن كيران رئيسا للحكومة في احترام للدستور، بيد أنه بعد مشاورات، دامت حوالي 6 أشهر،مع الأحزاب المعنية فشل في تشكيل الحكومة، فجرى تعيين سعد الدين العثماني الشخصية الثانية في الحزب رئيسا للحكومة، والذي نجح في تشكيل حكومة أكملت ولايتها حتى انتخابات 2021.

لقد كان بإمكان الملك محمد السادس أن يعين رئيس الحكومة من الحزب الثاني في الانتخابات،بيد أنه حرص على إبقاء التعيين من الحزب الأول احتراما للمنهجية الديموقراطية.

وخلال تجربة العثماني على رأس الحكومة، ابتعد ابن كيران عن الحزب يراقب تارة وينتقد تارة أخرى، وساهم في إثارة جدل حول فعالية حكومة العثماني ومدى التزامها بمبادئ الحزب خاصة بعد مصادقة الحكومة على قانون تقنين زارعة القنب الهندي، واتهامها من طرف ابن كيران بالموافقة على اعتماد اللغة الفرنسية بدل العربية في تدريس المواد العلمية في المدارس العمومية. كما ساهم توقيع سعد الدين العثماني على اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، في خلق رجة داخل الحزب وفي أوساط مؤيديه ما مهد لسقوطه الانتخابي في اقتراع سبتمبر 2021.