تحمل الوجهة الخارجية الأولى لأي رئيس أميركي رسائل مبكرة إلى حلفاء واشنطن وخصومها على حد سواء. ويجدها دونالد ترامب، الذي طالما نظر إلى العالم بعين رجل الأعمال، فرصة جيدة لعقد الصفقات.
ففي ولايته الأولى، لم يلتزم ترامب بتقليد اتبعه الرؤساء الأميركيون لعقود طويلة، إذ كانوا يفضلون البدء بزيارة أقرب الجيران، كندا أو المكسيك، أو دول أوروبية، على ضوء مصالح واشنطن الاستراتيجية في "القارة العجوز".
وحينها حطت طائرة الرئاسة الأميركية "إير فورس وان" في السعودية، في أيار (مايو) 2017، ليجتمع ترامب مع حلفاء مهمين في الشرق الأوسط، ويحتفي بصفقات بمئات المليارات من الدولارات، ويشارك في رقصة "العرضة" التقليدية، صحبة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز.
وبعد عودته التاريخية إلى البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) الماضي، أعلن ترامب أنه سيستهل زياراته الخارجية بجولة خليجية، ولكنه توجّه إلى الفاتيكان الشهر الماضي، في رحلة غير متوقعة لحضور جنازة البابا الراحل فرنسيس.
فلماذا يمنح ترامب أهمية خاصة لزيارة السعودية وقطر والإمارات؟ وهل تفسّر جولته أولوياته خلال ولايته الثانية؟
يقول الأكاديمي العُماني المتخصص في شؤون الخليج، عبدالله باعبود، لـ"بي بي سي نيوز عربي" إن ترامب يدرك ثِقل منطقة الخليج اقتصادياً وسياسياً على ضوء نفوذها المتنامي، إقليمياً وعالمياً، وقدرة دولها على ضخ استثمارات ضخمة.
ويضيف أن استقرار المنطقة وموقعها الاستراتيجي، وتفاعلات دول الخليج الإقليمية والدولية، يمنحها "دورا يفوق حجمها وقدراتها".
الصفقات التجارية الضخمة
عندما كشف ترامب عن خططه بشأن هذه الجولة في آذار (مارس) الماضي، قال إنه أعطى أولوية لزيارة الخليج بهدف إتمام صفقات تجارية مع دوله الثرية. وذكر أن اختياره جاء بعد وعود بصفقات بـ"مئات المليارات من الدولارات" ستستفيد منها الشركات الأمريكية.
ويقول باعبود إن "استثمارات منطقة الخليج واحتياطاتها النقدية وصناديقها السيادية تساعدها على لعب دور كبير في الاقتصاد العالمي".
وعلى ضوء التحديات التي يواجهها الاقتصاد الأميركي، يدرك ترامب أن هذه المنطقة تستطيع أن تساعده على جذب "الكثير من المال والاستثمارات في الولايات المتحدة"، بحسب الباحث العُماني.

وبعد زيارة السعودية، في عام 2017، تباهى ترامب بصفقات بلغت قيمتها أكثر من 450 مليار دولار، من بينها مبيعات عسكرية بقيمة 110 مليار دولار.
لكن هذه المرة، يأمل ترامب في صفقات مع السعوديين تناهز تريليون دولار. وبالإضافة إلى ذلك، قال البيت الأبيض إن الإمارات تعهدت بـ"إطار استثماري" في الولايات المتحدة مدته 10 سنوات، وتصل قيمته إلى 1.4 تريليون دولار.
ويركز ترامب على تحقيق "مكاسب آنية" من جولته الخليجية، بحسب حسن منيمنة، الباحث المتخصص في الشؤون الأميركية والشرق أوسطية والمقيم في واشنطن.
وقال منيمنة لـ"بي بي سي نيوز عربي" إنه على ضوء "الحرب التجارية" التي يشنها ترامب على الصين ودول أخرى، يحتاج إلى إظهار أن "الصفقات تتدفق على الولايات المتحدة"، كي تكون دليلا على نجاح سياساته.
- ما سر العلاقة الخاصة بين ترامب والأمريكيين العرب؟
- ما تأثير الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين على الاقتصاد العالمي؟
- المخاوف من رسوم ترامب توجّه ضربة للاقتصاد السعودي هي "الأكبر منذ 5 سنوات"
أزمات الشرق الأوسط
في الوقت الحالي، يبدو أن مستقبل قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، وبرنامج إيران النووي من أبرز ملفات السياسة الخارجية الأميركية. ويلعب الحلفاء الخليجيون دورا بارزا في كلا الأمرين.
وصدم ترامب العالم، بعد أيام من بدء ولايته الثانية، بحديثه عن أن الولايات المتحدة تريد السيطرة على غزة لتحولها إلى "ريفيرا الشرق الأوسط".
وتشمل الأفكار التي تحدث عنها ترحيل معظم سكان القطاع، البالغ عددهم نحو 2.1 مليون شخص، على أن تتحمل تكلفة ذلك "دول مجاورة لديها ثروات كبيرة".
قوبل مشروع ترامب بانتقادات واسعة، وطرحت الدول العربية تصورا بديلا لإعادة إعمار القطاع، لكن الولايات المتحدة وإسرائيل اعترضتا عليه.

ويتوقع باعبود أن يسعى الرئيس الأميركي، خلال جولته التي تنتهي يوم الجمعة، للحصول على دعم مالي لإعادة إعمار القطاع، الذي دمرته الحرب.
لكن ثمة قضية قد تكون أكثر إلحاحا بالنسبة لترامب، بحسب باعبود، الذي يقول إن الرئيس الأميركي سيركز على أن "يطلب من دول الخليج التدخل لإطلاق سراح باقي الرهائن المحتجزين في غزة".
وتشارك قطر، التي توجد بها أكبر قاعدة جوية أميركية في الشرق الأوسط، في جهود وساطة بين حركة حماس وإسرائيل من أجل وقف إطلاق النار بين الجانبين والإفراج عن الرهائن.
وعززت الولايات المتحدة مؤخرا من وجودها في الشرق الأوسط، في إطار الانعكاسات الإقليمية المرتبطة بحرب غزة، إذ شنت غارات جوية مكثفة ضد حركة أنصار الله الحوثية في اليمن، بعدما استهدفت سفنا في البحر الأحمر، مبررة ذلك بدعم الفلسطينيين.
وقبل قرابة أسبوع من زيارة ترامب، توسطت سلطنة عُمان للتوصل إلى هدنة بين واشنطن والحوثيين.
ويرى الباحث منيمنة أن الرياض، على الأرجح، طلبت من واشنطن وقف غاراتها الجوية على اليمن قبل وصول الرئيس الأميركي إلى المنطقة.
أما فيما يتعلق بملف طهران النووي، فقد هدد ترامب بقصف إيران إذا لم يتم التوصل إلى صفقة بشأنه.
"هناك سبيلان للتعامل مع إيران: إما عسكريا. أو من خلال إبرام اتفاق"، بحسب ما ذكره ترامب في مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز" الأمريكية في آذار (مارس) الماضي، مشيرا إلى أنه يفضل "التوصل إلى صفقة".
وقالت وزارة الخارجية الأميركية، في بيان في 30 نيسان (أبريل) الماضي، إن "النظام الإيراني مستمر في إذكاء الصراع في الشرق الأوسط، وتطوير برنامجه النووي، دعم وكلائه وشركائه الإرهابيين".
لكن يبدو أن ثمة رغبة أميركية إيرانية في تجنب الدخول في حرب مباشرة، إذ تتوسط سلطنة عُمان من أجل التوصل إلى تسوية بينهما.
- هل تلعب السعودية دور الوسيط بين طهران وواشنطن؟
- لماذا تحرص السعودية وقطر على دور "صانع السلام"؟
- كيف ساهمت مصر وقطر في الوصول لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة؟
النفوذ الخليجي المتنامي عالميا
برزت السعودية كوسيط بين الولايات المتحدة وروسيا وأوكرانيا. ففي شباط (فبراير) الماضي، استضافت الرياض مباحثات بين مسؤولين أميركيين وروس بشأن سبل إنهاء الحرب الأوكرانية – دون مشاركة كييف في تلك المباحثات.
وبدا هذا الاجتماع، وهو الأول من نوعه بين واشنطن وموسكو منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022، بمثابة نهاية لجهود الغرب الرامية إلى عزل روسيا.
وفي آذار (مارس)، استضافت السعودية وفودا من الولايات المتحدة وروسيا وأوكرانيا، في جولات مباحثات منفصلة.
وكان اجتماع المسؤولين الأميركيين والأوكرانيين في جدة أول لقاء بين الجانبين منذ مشادة كلامية بين ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض في أواخر شباط (فبراير). وربما ساعدت مباحثات أخرى في الرياض، وصفها الأوكرانيون بأنها "مثمرة"، على تهدئة الخلافات بين كييف وواشنطن.
- لماذا اختار ترامب السعودية مكانا للقاء نظيره الروسي؟
- ماذا نعرف عن المحادثات التي تستضيفها جدة بين الأمريكيين والأوكرانيين؟
- ولي العهد السعودي "لعب دورا حاسما" في صفقة تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا
كما نجحت السعودية والإمارات في التوسط بين الروس والأوكرانيين لإتمام صفقات تبادل أسرى حرب.
ويقول الأكاديمي باعبود إنه أصبح لدول الخليج نفوذ سياسي واقتصادي بفضل دورها في التعامل مع أزمات إقليمية وعالمية، بالإضافة إلى قدراتها المالية، وما تتمتع به من احتياطيات ضخمة من النفط والغاز الطبيعي.
ويشير إلى أن منافسين للولايات المتحدة، من بينهم الصين، يدركون أهمية هذه المنطقة، ولذا ترغب واشنطن في تعزيز علاقتها مع القادة الخليجيين.
فرص التطبيع بين السعودية وإسرائيل
حقق ترامب إنجازا تاريخيا، خلال ولايته الأولى، بالتوسط في اتفاقيات تطبيع بين إسرائيل وأربع دول عربية: الإمارات والبحرين والمغرب والسودان.
وبينما أثرت الحرب الدائرة في السودان على مباحثات التطبيع الخاصة بها، انضمت الدول الثلاثة الأخرى إلى مصر والأردن، لتقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.
ولا تعترف السعودية، الدولة المؤثرة بشدة عربيا وإسلاميا، رسميا بدولة إسرائيل، حتى الآن. وقال مسؤول سعودي بارز لـ"بي بي سي" العام الماضي إن صفقة بين الجانبين كانت "وشيكة"، قبل أن تشن حركة حماس هجومها على إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
وبعد أن أشار ترامب إلى أن الرياض قد لا تشترط إقامة دولة فلسطينية مستقلة من أجل التوصل لاتفاق، أكدت السعودية أنه "لا علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون إقامة دولة فلسطينية".
ويرى مراقبون أن مسألة التطبيع هذه تكتنفها بعض الحساسية بالنسبة للسعودية في الوقت الحالي.
ويقول باعبود إنه مع استمرار الحرب في غزة، يبدو أن السعودية غير مستعدة لمناقشة القضية خلال زيارة ترامب.
لكن الباحث توقع أن يسعى الرئيس الأميركي لإتمام اتفاقات بين إسرائيل ودول خليجية أخرى خلال ولايته الرئاسية الثانية. ولا شك في أن أي صفقة تشمل السعودية ستمثل تحولا كبيرا في المنطقة، كما أن تبعاتها ستكون أوسع نطاقا.
التعليقات