"ايلاف" رصدت خلافاتهم وغاصت في نزاعاتهم
مشاحنات مهددة بالانفجار في السعودية بين الجاميين والسروريين
محمد عبد الله ناب: يرى بعض المراقبين أن ظاهرة الإحياء الديني أو الصحوة الإسلامية كما سماها مؤيدوها، جاءت على أثر انهيار مشروع القومية العربية بمختلف أطيافها لتحل محلها وتشكل حلا لأزمة الهوية وحالة التخلف التي يعاني منها الإنسان المسلم والعربي على وجه الخصوص. كان حضور السعودية في المشروع القومي العربي متأرجحًا بين الهوية العربية كما يطرحها المشروع القومي وبين الهوية الدينية التي تميز المملكة عن بقية العالم العربي بسبب وجود الحرمين على أراضيها. ومع ظهور الإحيائية الدينية التي تزامن ظهورها مع التصاعد الهائل في أسعار النفط الذي انعكس على ازدياد مداخيل السعودية مما أسهم في تمويل الحركات الدينية التي تشكلت منها ظاهرة الإحياء ا لديني.
والراصد لتطور ظاهرة الإحياء الديني في السعودية في بداياتها سيلمح أنها كانت تيارا واحدا لكنها بعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود بدأت تتفرع إلى عدة تيارات برز منها تياران أساسيان أطلق على أحدهما التيار الجامي والآخر التيار السروري.
"ايلاف" تقدم من خلال هذا المقال للاستاذ محمد عبدالله ناب معالجة صحافية تأخذ الطابع التحليلي والتحقيق الميداني في ضوء تصاعد الخلاف بين هذين التيارين .
الجامية والسرورية، حرب لا هوادة فيها!
للصحوة الإسلامية في السعودية كما يقولون جناحان رئيسيان، الجناح (الجامي) و هو الجناح الذي يؤمن بنظرية (طاعة) ولي الأمر حسب التقليد السني التاريخي، والجناح الآخر الجناح (السروري) وهو جناح يسعى إلى (تثوير) التراث السني، والعمل على جعله أداة سياسية واجتماعية فاعلة للتغيير. وكلا الجناحين، أو بوجه أدق جميع المنتمين أيديولوجياً إليهما، لا يؤمنون بالمذاهب السنية التقليدية، ويتمردون عليها، ويعتمدون على قاعدة (ما صح به الدليل) كما هو منهج الطرفين. بينما أن الخلاف الجوهري بين التوجهين يتبلور فقط في (النظرية السياسية) على وجه التحديد، وبالذات في العلاقة بين الحاكم والمحكومين.
هذان الجناحان من أبرز الأجنحة الفاعلة على الأرض في المملكة هذه الأيام، وإن كان ثمة أجنحة أخرى كجماعة التبليغ والسلفية العلمية (أهل الحديث)، وإخوان بريدة، والمتصوفة الجدد، والإخوان المسلمين التابعين للجماعة الأم، والتكفيريين. كما أنهما لا يعترفان بالمذاهب السنية كمرجعية، وإن كانا يمران بها مرور الكرام في معرض (الانتقائية) لاختياراتهم العقدية والفقهية.
(الجامية) تنتسبُ إلى عالم سعودي، يُقال إنه من أصل حبشي، اسمه (محمد أمان الجامي). كان مدرساً في الجامعة الإسلامية في المدينة، وكذلك في المسجد النبوي، وله مؤلفات وأبحاث ومحاضرات كثيرة، كلها لا تختلف كثيراً مع الفكر الوهابي السائد في المملكة، ولكنها لا تعتد بالمذاهب الفقهية، وتنحى إلى التعامل مع الأحاديث بشكل مجرد عن الآراء المذهبية السنية، فما صح منها في معاييرهم وقياساتهم اعتمدوه، دون أن يُبالوا بأساسيات وأقوال أئمة المذاهب والراجح من اختياراتهم.
وتنتسب (السرورية) إلى مدرس حركي سوري، اسمه (محمد سرور بن زين العابدين). كان أحد كوادر (الأخوان المسلمون) الجناح السوري. جاء إلى المملكة في منتصف الستينات ميلادية، وعمل في منطقة القصيم تحديداً، واستطاع من هناك أن يبذر في تلك الأرض الخصبة والبكر، أهم مقومات الفكر الأخواني، الذي تقوم على (تسييس) الدين، ويُعطي لقضايا السياسة أولوية مطلقة على ما عداها من قضايا الدين الأخرى. غير أن (الخلطة السرورية) التي ابتكرها محمد سرور في المملكة، والتي ميزتها عن حركة (الاخوان المسلمون)، و جعلتها في المحصلة تنسبُ إليه، تصر على القضايا العقدية (إصرارها) على القضايا (السياسية)، وهو ما ميزها عن الحركة الأم (الاخوان المسلمون)، التي لا تحفل بالقضايا العقدية في الأساس، وتدعو إلى تجاوز الخلاف حولها، وصولاً إلى (توحيد المسلمين) سياسياً.
ويبدو أن محمد سرور بعد أن دلفَ إلى الأراضي السعودية مبكراً وجد أن (تهميش) الخلاف العقدي سيثير عليه الوهابيون التقليديون، فأبقى على شعار (العقيدة أولاً) كما هو شعار الوهابيين، ذراً للرماد في العيون، ولكنه أضاف إليها (السياسة) ضمنياً، وجعلها في النتيجة (عاملاً) عقدياً لا فقهياً، يتوازى في (أهميته) مع الشأن العقدي حسب التفسير الوهابي، رغم أن الوهابيين تقليدياً يفرقون بين الشأن السياسي الذي هو من اختصاص (ولي الأمر) وبين الشأن العقدي الذي هو من اختصاص (أهل الذكر)، وهذا ما يتجلى بوضوح في تاريخ هذا الفكر، وتحديداً في تاريخ الحقبات الثلاث للدولة السعودية القائمة الآن. وبقيت الحركة السرورية تعمل تحت الأرض، وتنتشر انتشار النار في الهشيم في أرجاء المملكة، وبالذات بعد أن دخلَ العالم العربي و الإسلامي حقبة (الصحوة الإسلامية)، أو ظاهرة (الإحياء الديني)، الذي كان أسياد شقها السني، والمؤثرون الحقيقيون فيها، وحاملو لواءها، حتى خارج المملكة، هم السروريون على وجه التحديد.
غير أن العقبة الكأداء، والتي حـَدّت من قدرة السرورية على (تثوير) الإسلام السني، والتي أفرزت الفرقة (الجامية) فيما بعد، كانت تتمحور حول التراث السني المتراكم منذ عقود والذي يدعو بمباشرة ودون مواربة إلى ( طاعة ولي الأمر) طاعة شبه عمياء ـ وإن (جلد ظهرك وسرق مالك) كما جاء في أحد الأحاديث ـ. وهذا ما تتفق عليه المذاهب السنية الأربعة رغم اختلافاتها.
الافتراق بين السرورية والجامية كان موجوداً على مستوى السجال الداخلي في المملكة بين أقطاب الطرفين، ولكنه تفجر بشكل واضح، وألقى بظلاله على الخارج، خلال حرب الخليج وتبني محمد سرور، ومن خلفه سفر الحوالي والبقية، موقفاً تصادمياً مع الدولة في مسألة الاستعانة بالجيوش الأجنبية في مواجهة الغزو العراقي للكويت، ثم احتد السجال بين السرورية ممثلة في ربيع المدخلي ومحمد أمان الجامي من جهة، وبين سفر الحوالي وسلمان العودة من جهة أخرى.
والذي يجبُ ملاحظته، والتوقف عنده ملياً، أن كلا الاتجاهين، السروري و الجامي، يتفقان على منهج (أهل الحديث) لا (أهل الفقه) في التحليل و الاستدلال. وهذا ما يتضح بجلاء في كتابات واستدلالات وأدبيات كلا الطرفين. أما السبب في تقديري فيعود إلى أن القرن العشرين، الذي شهد بداية وتكوّن وانطلاق ظاهرة الإحياء الديني، كان العالمان المعاصران الأبرز والأقوى نفوذاً وشهرة فيه، ليس في المملكة فحسب، وإنما في كل أرجاء العالم الإسلامي، (مُحدثين) ولم يكونا (فقيهين) حسب التصنيف السني التقليدي للمحدث والفقيه، وهما السعودي الشيخ عبد العزيز بن باز والسوري الشيخ ناصر الدين الألباني. ولعل تحييد معايير (أهل الفقه) وإبراز معايير (أهل الحديث) في التعاطي مع التراث الإسلامي، كانت من أهم مرتكزات الصحوة الإسلامية المعاصرة، والتي يمكن القول ـ ولأسباب موضوعية بحتة ـ أنها كانت بمثابة (شرط الضرورة) لنجاح هذه الصحوة. وهناك من يرى أن الانقلاب على المنهج الفقهي المذهبي كان من آثار حقبة النهضة محمد عبده ومدرسته، ثم جماعة أنصار السنة في مصر والسلفية الهندية و (الغماريين)، ثم الألباني الذي يعد منعطفا هاما في مسألة (العودة) للسنة على حساب (التفقه) المذهبي، والتقليل من مركزية الوهابية العقدية، على حساب العقدية السلفية ذات الجذور التراثية المستقلة.
والراصد لظاهرة الصراع الذي تزداد شراسته بين الاتجاه (السروري) وبين الاتجاه (الجامي) في المملكة، حول (النظرية السياسية) في الإسلام، يلحظ أول ما يلحظ أن هذا الصراع قد أدى في النتيجة إلى ضعف ظاهرة الصحوة، على حساب تنامي التوجه (الليبرالي) من جهة، ومن جهة أخرى أدى كذلك إلى عودة (أهل الفقه) إلى الساحة من جديد، لضبط انفلات التراشق والصراع بين التوجهين، بالشكل الذي سيؤدي ـ في رأي الفقهاء ـ إلى إضعاف الإسلام كعامل تأثير اجتماعي كما يؤكد الشيخ عبد المحسن العبيكان، العالم والفقيه الأبرز هذه الأيام بين علماء المملكة في حديثه الأخير لصحيفة الشرق الأوسط.
إلى أين يتجه هذا الصراع المحتدم حالياً، وكيف ستكون انعكاساته على الصحوة في المستقبل ؟، هذا ما سيجيبُ عليه المستقبل القريب.
التعليقات