نواكشوط: رغم انقضاء ثلاثة أشهر ونيف على الانقلاب العسكري الذي أطاح الصيف الماضي بالرئيس الموريتاني المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، لا تزال الأوضاع في موريتانيا تُـرواح مكانها.
فلا المجتمع الدولي أقر بالانقلاب واعترف بالانقلابيين وتعاطى معه كأمر واقع لا محيد عنه، ولا هو تجاوَز مرحلة الوعد والوعيد ونفّـذ تهديداته، وحتى على مستوى الجبهة الداخلية، لا تزال حالة الانقسام التي أعقبت إذاعة البيان الأول صبيحة يوم الانقلاب، تراوح مكانها.
فأنصار الرئيس المخلوع ومؤيِّـدوه، ومن ضِـمنهم أقلية برلمانية وبعض قادة الأحزاب السياسية، ما زلوا ينظرون للحكّـام العسكريين كطغمة اغتصبت السلطة وسطَـت على الديمقراطية ونكصت عن وعودها السابقة وانقلبت على خيار الشعب، ويلحّـون على ضرورة إفشال الانقلاب وعودة الرئيس المنتخب إلى منصبه، قبل أي حوار أو نقاش.
أما أنصار الانقلاب، ومن بينهم أغلبية البرلمانيين وعُـمد البلديات المحلية، فيرون أن الحديث عن عودة الرئيس المخلوع هو ضرب من الخيال، وأن وصف ولد الشيخ عبد الله لنفسه بالرئيس الشرعي، هو مجرّد quot;أحلام يقظةquot;، على حدّ تعبير وزير الاتصال في حكومة المجلس العسكري.
وبين المعسكرين، يعيش الشارع الموريتاني شاخصا البصر صوب المجتمع الدولي، خِـشية أن يخرج سيف العقوبات من غمده وأن يضرب طوق الحصار حول بلد يتّـسم اقتصاده بالهشاشة والضعف، وتدنّـي مستويات دخل السّـواد الساحق من سكانه.
العسكر يتحدى العقوبات
كِـلا طرفي المشهد السياسي، يوغل في التصامم والأعراض عن الطرف الآخر، والأزمة السياسية تتفاقم مُـنذِرة بأن الغد القادم قد يحمِـل ما لا تُـحمد عُـقباه.
فالمجلس العسكري الحاكِـم في البلاد منذ الانقلاب، قبل أزيد من مائة يوم، يُـواصل تنفيذ أجندته السياسية التي أعلن عنها، دون اكتِـراث بالمطالب الداخلية والدولية، ويتحدّث رئيسَـه وأعضاءَه عن برامج تنموية طويلة الأمد سيتِـم تنفيذها، كما يتحدّون الحديث عن احتمال العقوبات الاقتصادية الدولية، بالإعلان عن إطلاق عدد من المشاريع التنموية والبُـنى التحتية، وقد حرِص الحاكم العسكري الجنرال محمد ولد عبد العزيز في كل مناسبة تُـتاح له، على الحديث عن توفّـر الإمكانيات الكافية لإقامة المشاريع التنموية الضرورية في البلد، دون الحاجة لمساعدة الآخرين، بل إن الحكومة التي شكّـلها المجلس العسكري عمدت إلى وضع ميزانية العام القادم (2009)، مُـعتمِـدة أساسا على الموارد الداخلية للبلد، وذلك تحسّـبا لفرض عقوبات خارجية عليه، هذا فضلا عن الإعلان عن تخفيضات مُـعتبرة في أسعار المواد الاستهلاكية، التي شهدت في الفترة الماضية ارتفاعات لا تتناسب ومستويات دخل أغلبية السكان، هذا فضلا عن الزيارات التي يقوم بها الجنرال ولد عبد العزيز للأحياء الفقيرة في ضواحي العاصمة نواكشوط، ودخوله إلى بعض أكواخ الفقراء والمحتاجين، في إشارة رمزية إلى الاهتمام بهذه الشريحة والوعود التي يطلقها من هناك بالعمل على إزالة أوضاع البؤس والحِـرمان عن هؤلاء، كلّـها أمور لاحقت ترحيبا واستحسانا لدى عامة الناس الذين لا يولون اهتماما كبيرا لتفاصيل الحياة السياسية وتداعياتها.
تضاف إلى ذلك، التصريحات المتكرّرة لرئيس المجلس العسكري بعزمه شن حرب لا هوادة فيها، ضدّ ظاهرة الفساد واختلاس المال العام، التي تُـصنَّف العدو الأول للتقدّم والتنمية في موريتانيا، ذلك البلد الذي يتوفّـر على ثروات طبيعية كبيرة، وسكان لا يتجاوز عددهم ثلاثة ملايين نسمة، لكن أربعة أخماسهم يعانون من الفقر والبؤس، بسبب سوء تسيير موارده وثرواته.
وبالفعل، شرعت السلطات الجديدة في ملاحقة من تعتبِـرهم رموز فساد، حيث تمّ اعتقال عدد من المديرين السابقين والمساهمين في شركة الخطوط الجوية الموريتانية، التي أفلست بسبب الفساد وسوء التسيير، وفي مقدّمة هؤلاء رئيس الوزراء في الحكومة المطاح بها يحيى ولد ـحمد الواقف، كما اعتقل عدد من المسؤولين المتّـهمين بالتورّط في صفقة شراء كمية من الأرْز الفاسد، كانت في طريقها إلى التوزيع على المواطنين ضِـمن برنامج يستهدِف السكان الأقل دخلا. كلها أمور وجدت ارتياحا لدى غالبية الفقراء وبسطاء الطبقة العاملة في البلد.
المعارضون.. بعد الإفراج عن الرئيس
لكن على الطرف الآخر، هناك quot;الجبهة الوطنية للدّفاع عن الديمقراطيةquot;، المؤلفة من مجموعة أحزاب وشخصيات سياسية مناوِئة للانقلاب، والتي استطاعت أن تحافظ على تماسكها ونشاطها ضد الانقلاب، إلى أن رأى زعيمها الرئيس المخلوع سيدي محمد لد الشيخ عبد الله النّور وخرج من سِـجنه الانفرادي إلى منفاه الإجباري في مسقط رأسه بقرية quot;لمدنquot;، حيث يُـسمح له بلقاء السياسيين والصحافة والموفدين الأجانب.
ورغم أن خروج quot;الرئيس الشرعيquot; من معتقله شكّـل مناسبة استعادت من خلالها quot;الجبهةquot; أنفاسها، إلا أن فتورا ملحوظا اعترى أنشطتها وتحرّكها في الأسابيع ألأخيرة، لأسباب يقول قادة الجبهة، إنها تتعلق باستراحة مُـحاربة، استعدادا لإطلاق إستراتيجية جديدة في النِّـضال، بينما يتحدّث بعض المراقبين عن خلافات داخلية فيها، بسبب تبايُـن الرُّؤى والمشارب السياسية لمكوِّناتها، المشكلة مكونة من خليط من اليساريين والإسلاميين والقوميين، قد تكون فتت في عضد الجبهة التي، وإن خفت نشاطاتها الشعبية والجماهيرية، إلا أن بياناتها النارية لا تزال توفر مادّة إعلامية للصحف والمواقع الإلكترونية المحلية.
هذه الجبهة المناوئة للانقلاب، ترى في الإجراءات التي أقدم عليها المجلس العسكري ولاقت استحسان العامة، تصرّفات صُـبيانية ستكون لها نتائج كارثية على مستقبل البلد. فبالإضافة إلى أن إصرار الجنرالات على عدم التراجع عن خطئِـهم المتمثل في الانقلاب ـ كما تقول الجبهة ـ سيقود البلاد إلى مواجهة مع المجتمع الدولي، وحصارٍ سيكون الشعب ضحيّـته الأولى، ترى الجبهة كذلك، أن المشاريع التي بدأ تنفيذها من قبيل تخطيط الأحياء العشوائية وشقّ شبكة طرق داخل العاصمة وخارجها، وتخفيض أسعار المواد الغذائية والمحروقات والغاز، كلها قرارات اتُّـخذت دون دراسة أو تروٍّ، ويتّـهمون الجنرال ولد عبد العزيز بأنه يدير شؤون البلد وِفقا لمزاجه وعلى طريقة الثكنة العسكرية، ضمن حملة انتخابية بدأها منذ انقلابه على الرئيس المنتخب في السادس من شهر أغسطس.
أما الاعتقالات التي تمّـت على خلفية تحقيقات أمنية وقضائية في ملفات الفساد، فتقول الجبهة إنها كانت انتقائية، وقد استهدفت أطُـرها ومناضليها، وتُـبرهن الجبهة على ذلك بالقول، أن كل المعتقلين هم من أعضائها المعارضين للانقلاب، وأن كبار المفسدين الموجودين في صفوف مؤيِّـدي الانقلاب، يحظون بالتكريم والتّـعيين في وظائف سامية، وقد أكّـدت قيادة الجبهة أنها تعتبِـر من تسمِّـيهم الحكومة quot;مُـعتقلي الفسادquot;، مجرد معتقلي رأي، وأعلنت أنها ستُـواصل تبنِّـيها لقضيتهم والدفاع عنهم، حتى يُـطلق سراحهم.
محاربة الفساد والفقر
لكن بعض قادة الجبهة لا يخفون حرجهم أمام الجماهير quot;الساذجةquot; من الدفاع عن معتقلي الفساد، ورغم أن هؤلاء المعتقلين ما زلوا متّـهمين، لم ترفع عنهم بعد قرينة البراءة وتشوب إجراءات اعتقالاتهم والتحقيق معهم شبهات كثيرة، ليس أقلها الخصومة السياسية بينهم وبين النظام العسكري، إلا أن استشراء الفساد بشكل كبير في البلاد وانهيار بعض كُـبريات المؤسسات بسبب الفساد، وإحجام ألأنظمة السابقة عن محاربته بحجّـة الحفاظ على الوحدة الوطنية، جعلت غالبية الشعب المتضرّرة من الفساد، تبارك، ولو صمتا، أي إجراءات تُـتّـخذ تحت يافطة محاربة الفساد، خصوصا إذا استهدفت مسؤولين سابقين، بغضّ النظر عن قرار القضاء النهائي بشأنهم مستقبلا، هذا فضلا عن اعتراف الجبهة بشعبية الإجراءات التي اتّـخذها الحكام العسكريون، والتي تمسّ حياة الناس اليومية.
لكن معارضي الانقلاب يراهنون على النفَـس الطويل، وعلى أن قطار quot;إنجازات الجنرالاتquot; سيتوقّـف قريبا، لأنه يسير على السكّـة الخاطئة ودون تخطيط عقلاني ومَـنطقي، بل ويؤكِّـدون تشبّـثهم بخيار عودة الرئيس السابق إلى منصبه، وهي عودة اقترح أبرز قادة الجبهة رئيس الجمعية الوطنية مسعود ولد بلخير أن تكون مؤقتة، والغاية منها أن يُـشرف الرئيس على تنظيم انتخابات رئاسية مبكّـرة، لا يسمح له هو نفسه بالترشح لها.
وبين الموقفين، تبرز من حين لآخر دعوات تتبنّى موقِـفا ثالثا، يسعى للحيلولة دُون عودة الرئيس المخلوع إلى منصبه، ويقود إلى مغادرة العسكريين للسّـلطة نهائيا، لكنها أصوات لا تزال خافتة لم تستطع بعدُ أن تعلُـوا فوق صوت معركة الانقلابيين ومعارضيهم، والتي لا تزال معركة وجودٍ وبقاء، لا معركة تسويةٍ وانفراج.
محمد محمود أبو المعالي
التعليقات