نواكشوط: ألقَـت مجموعة الاتِّـصال الدولية المكلّـفة بالأزمة السياسية في موريتانيا بالملفّ على طاولة الزعيم الليبي والرئيس الدّوري للاتحاد الإفريقي معمر القذافي. وقرّر المجتمعون في باريس يوم 20 فبراير الماضي، تأجيل quot;القرارات الحاسِـمةquot;، التي كان متوقّـعا أن تَـصدُر حول موريتانيا، إلى غاية نهاية شهر مارس، وذلك لمنح القذافي فُـرصةً لإنجاح أول مهمّـة دبلوماسية تُـسنَـد إليه منذ تولِّـيه رئاسة الإتحاد الإفريقي الشهر الماضي.
وجدّد المجتمعون في باريس، والذين يمثِّـلون منظمات دولية وإقليمية هامة تشمل الاتحادين الأوروبي والإفريقي وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والمنظمة الدولية للفرانكفونية والأمم المتحدة، دعوتهم للفُـرقاء السياسيين لحلّ الأزمة والبحث عن توافُـق وطني يضع حدّا لحالة الاستقطاب الحادّة التي تعرفها البلاد، قبل تدويل الملف الموريتاني وفرض عقوبات عليها، لن يكون الحكام أكثر تأثرا بها من المحكومين.
وشدّد المجتمعون في بيانِـهم على ترحيبهم ببعض النِّـقاط الإيجابية الوارِدة في ثلاث مبادرات قُـدِّمت إليهم، أولها من الرئيس المخلوع سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، والثانية من رئيس المجلس العسكري الحاكم الجنرال محمد ولد عبد العزيز، أما الثالثة، فقدّمها زعيم المعارضة الديمقراطية أحمد ولد داداه.
مبادرات واختلافات
وتصبّ هذه المبادرات الثلاثة في الدّعوة إلى تنظيم انتخابات رئاسية مبكّرة، لكن مع اختلاف جوهري في الاقتراحات المقدّمة بشأن طريقة تنظيمها، والجِـهات التي ستتولّى إدارتها والظّـروف التي ينبغي أن تجرى فيها.
فقد أعلن الجنرال ولد عبد العزيز استعداده لتقديم استقالته من منصبه كرئيس للبلاد في شهر أبريل القادم على أن يتولّى رئيس مجلس الشيوخ والحكومة الحالية تسيير شؤون البلاد كما ينصّ على ذلك الدستور الموريتاني، مقابِـل أن يُـسمح له (أي الجنرال ولد عبد العزيز) ولغيره، بما في ذلك الرئيس المخلوع ولد الشيخ عبد الله، بالترشّـح للانتخابات الرئاسية، المقرر إجراؤها مبدئيا في شهر يونيو القادم.
أما الرئيس المخلوع ولد الشيخ عبد الله، فقد اقترح مبادرة تقوم على إفشال الانقلاب الذي أطاح به وعودته هو إلى السلطة، على أن يقوم بعد ذلك بالدّعوة إلى حوار وطني شامِـل، ينتهي بتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكّـرة، مشيرا إلى إمكانية البحث لقادة المجلس العسكري عن مَـخرج مشرّف يصُـون لهم ماءَ الوجه ويعفِـيهم من العقوبة.
أما زعيم المعارضة الديمقراطية أحمد ولد داداه، فتقوم مبادرته على رفض عودة ولد الشيخ عبد الله إلى السلطة وتنظيم انتخابات رئاسية مبكّـرة تمنع الجنرال ولد عبد العزيز من الترشّـح لها أو مساندة أي مرشّـح لها.
لكن المجموعة الدولية رفضت تبنّـي أيّـًا من المبادرات الثلاثة وحذّرت المجلس العسكري الحاكم من مغبّـة محاولة فرض أي حلّ أُحادي قبل اتِّـفاق الفرقاء، مشدّدة على ضرورة أن يجد الموريتانيون حلاّ داخليا لأزمتهم، قبل أن يُـحال الملف إلى مجلس الأمن الدولي.
ترحيب بالوساطة
وقد أعربت جميع أطراف الأزمة عن ارتياحها لنتائج اجتماع باريس، كما رحّـبت بالوساطة الليبية. وعبّـرت الجبهة الوطنية للدِّفاع عن الديمقراطية الموالية للرئيس المعزول سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، عن استعدادها للحوار وترحيبها بالتحرّك الليبي لإنهاء الأزمة، لكنها أعربت عن رفضها لأي حوار quot;يُـكرّس الأمر الواقع الذي فرضته الطغمة العسكرية منذ انقلابها على الشرعية الدّستورية في السادس من أغسطس الماضيquot;.
وقالت الجبهة في أحدث بيان لها، إنها ترحِّـب بمبدإ تنظيم انتخابات رئاسية مبكّرة، لكن بشرط أن تكون تلك الانتخابات quot;جُـزءا من حلٍّ شاملٍ وسلمي وديمقراطي للأزمةquot;، وطالب أنصار ولد الشيخ عبد الله المجلس العسكري الحاكِـم بوقف المساعي الأحادِية الجانِـب، الساعية لتكريس الأمر الواقع، مؤكِّـدين أنهم يَـروْن أن الحلّ الوحيد المُـتاح للأزمة هو quot;عودة الشرعية مُـمثلة في الرئيس المنتخب السيد سيد محمد ولد الشيخ عبدالله ووضْـع حدٍّ للانقلاب العسكريquot;.
أما زعيم المعارضة الديمقراطية أحمد ولد داده، فقد رحَّـب هو الآخر بالتحرّك الليبي وأعرب عن استعداده للحِـوار وتمسُّـكه بمبادرته التي قدّمها للمجتمع الدولي، قائلا quot;إن نظام ولد الشيخ عبد الله يجب أن لا يعود، لأنه أهلَـك الحِـرث والنّـسل، وكان سيقود البلاد إلى الكارثة لو استمرّ في الحكمquot;، لكنه يعتقِـد أيضا أن بقاء العسكريين في السلطة سيكون بمثابة كارثة أخرى على البلد، كما أن ترشّـحهم للانتخابات الرئاسية سيُـفرغ العملية الديمقراطية من مضمونِـها وسيُـحوِّلها إلى انتخابات صورية تكرّس سلطة العسكريين وتمنحهم الشرعية التي يفتقدونها.
وخلال الأسبوع المنصرم، أعلن القذافي أولى خطواته على طريق بدءِ مهمّـته الجديدة، وأكّـد أنه قرّر نقل الصّـلاة الاحتفالية، التي تعوّد على إقامتها سنويا بمناسبة عيد المولد النبوي، من السنغال إلى موريتانيا، وذلك ليكون بين الفرقاء السياسيين هناك للتّـفاوض معهم والبحث معهم عن حلِّ للأزمة، وقال محمد الشحومي، عضو القيادة الشعبية الإسلامية الليبية، إن القذافي quot;لن يغادر موريتانيا قبل التوصّل إلى حلٍّ سياسي يُـنهي الأزمة التي تعيشها موريتانياquot;.
quot;صلاة المُـصالحةquot;
وقبل أن يصِـل القذافي إلى نواكشوط لإقامة quot;صلاة المصالحةquot;، قام باستدعاء الفرقاء السياسيين إلى ليبيا للاجتماع معه، تمهيدا لتذليل الصِّعاب أمام مهمّـته التي يريد لها أن تحقِّـق الغاية المنشودة منها خلال وجوده في نواكشوط. ووجّـهت أول دعوة إلى الجنرال محمد ولد عبد العزيز لزيارة ليبيا، تلَـتْـها دعوة مُـماثلة لزعيم المعارضة الديمقراطية أحمد ولد داداه، فيما يُـنتظر أن تصل تِـباعا إلى طرابلس وفود ممثلة للأغلبية البرلمانية المؤيِّـدة للمجلس العسكري، وأخرى ممثلة للجبهة المناوئة للإنقلاب.
ولا يستبعد المراقبون أن تواجِـه الجهود الليبية عقبات وصعوبات يتطلّـب تذليلها جُـهدا إضافيا ووقتا ليس بالقصير، نظرا لأن كلاًّ من الطَّـرفين الرئيسيين في الأزمة: المجلس العسكري والجبهة المناوئة له، يُـصرّان على التشبُّـث بمواقف متناقِـضة، تقوم كلٌّ منها على رفْـض الآخر وإقصائه نهائيا، بحيث يؤكِّـد العسكريون وأنصارهم أن كل حلّ يُـمكن أن يُـناقش أو يتِـم القبول له، باستثناء عودة الرئيس المخلوع ولد الشيخ عبد الله إلى السلطة، فإنها تعتبر خطّـاً أحمرا لا سبيل إلى طرحه على طاولة الحِـوار أصلا، فكيف بالقبول به؟
أما الرئيس المخلوع وشيعته، فيرون أنه لا يمكن الدّخول في أي حوار تحت سلطة الانقلابيين وأن حل الأزمة يمُـرّ حتما بإفشال الانقلاب وعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل السادس من أغسطس 2008، تاريخ الانقلاب.
تفاؤل حذِر
ومع ذلك، يبقى الحديث المتفائِـل عن نجاح quot;سفارةquot; القذافي ووساطته في تجاوز الأزمة السياسية الموريتانية، أمرا واردا، خصوصا وأن كلّ طرف عبّـر، من حيث المبدإ، عن استعداده لتقديم تنازُلات يصِـفها بالمُـؤلِـمة، حيث يؤكِّـد الرئيس المخلوع على استعداده لعدم إكمال مأموريته وتنظيم انتخابات رئاسية مبكّـرة، يقول أنصاره إنه قد لا يترشّـح لها، هذا إذا سُـمِـح له بالعودة إلى السلطة.
أما العسكريون فقد أعلن قائدهم الجنرال محمد ولد عبد العزيز عن استعداده للاستقالة من منصِـبه قبل الانتخابات الرئاسية وإعادة الأمور إلى الوضعية الدستورية المُـعتادة، التي تنصّ على تسليم مقاليد الأمور لرئيس مجلس الشيوخ، وهما مطلَـبان جوهريان وأساسيان، أعلن عنهما الطّـرفان الرئيسيان قبل بدءِ الحوار، وهو ما يعني أن كلّ طرف قطَـع خطوة باتِّـجاه الطرف الآخر قبل لقائِـهما، ومن هنا، يمكن التكهُّـن بأن لدى كل منهما مدّخرا من التنازلات قد يكشِـف عنه أو عن بعضه أثناء المفاوضات، مما يعني أن فرصة التلاقي والوِفاق تبقى قائمة.
فضلا عن أن الزّعيم الليبي اعتمد قبل إطلاق مبادرته على إستراتيجية التّـرويع والتّـرويج، فأوفد مبعوثا خاصا إلى نواكشوط ليقدّم للفرقاء السياسيين هناك درْسا تحذيريا عن تجربة ليبيا مع الحصار، وكيف أنها عانت الأمَـرّين وقاسَـت الويلات بسببه، وهو البلد النفطي الغني بموارده، فهل بالإمكان أن يتم تصوّر نتائج الحِـصار على موريتانيا ـ إن فُـرض ـ إلا في خانة الكوارث والمخاطر التي تتهدّد البلد وكيانه وبنيته الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى التّحذير الذي وجّـهته مجموعة الاتصال الدولية لجميع الفرقاء من مغبّـة عدم التوصل إلى حلّ توافقي للأزمة الراهنة.
أما ترغيبا، فقد وعد القذافي بقبول دولي لأي حل توافقي يجنِّـب البلاد مخاطر الحصار ويعزّز مكانتها الدولية، ويضمن لها استقرارا يجلُـب الاستثمارات ويفتح آفاق التّعاون مع المنظومة الدولية.
وإلى أن يصل القذافي إلى نواكشوط الأسبوع القادم ويشرع في جمع الفرقاء على طاولة واحدة، يترقّـب الموريتانيون بحذَر نتائج تلك الوساطة، ويعلِّـقون آمالا جِـساما على سياسيِّـيهم لتجنيبهم ما لا تُـحمد عُـقباه، وهو ما لن يكون ـ حسب المراقبين ـ إلا إذا توصّـل الطرفان إلى حلٍّ،ٍ يُـلغي جدلية الغالب والمغلوب ويعزِّز الديمقراطية، التي باتت اليوم هي السبيل الأنجع للاستقرار والتنمية.
التعليقات