تشتهر مدينة المسيلة الجزائرية (330 كلم شرق العاصمة) بحرفة quot;نفخ الكيرquot; التقليدية المتوارثة منذ زمن الجزائريين الأوائل، لكن متغيرات المرحلة الراهنة في الجزائر دفعت كثيرا من حرفيي الكير إلى الابتعاد، quot;إيلافquot; ارتأت تسليط الضوء على هذه الحرفة الشائقة من خلال اقترابها من واقع آخر فرسانها ويتعلق الأمر بالحرفي المتمرس quot; عيسى رمضانquot; ومصارعته الظروف من أجل إبقاء هذه الحرفة حيّة.


كامل الشيرازي من الجزائر: في حي الكوش العتيق وسط مدينة المسيلة الجميلة، يخطف quot; عيسى رمضان quot; انتباه الزوار في محله العتيق الذي تمتلئ جنباته بأدوات حديدية يتفنن عيسى في صقلها من خلال تحويل أصلب المواد الحديدية إلى ما يشاء من آلات وعتاد مستعملا في ذلك الكير والفحم الحجري وبعض الأدوات البسيطة، ويقول عيسى إنّه ورث هذه (الصنعة) عن والده أحمد، ويجد نفسه ينفق الساعات الطوال كل يوم في سبيل هذه الحرفة التي يعشقها، لذا يبرز بسعادة غامرة أنّه لا يشعر بأي كلل أو ملل في تحويل كل المواد الفولاذية بدقة متناهية إلى أشياء يستخدمها مواطنوه في حياتهم اليومية.


وبشأن نوعية الأدوات التي يشتغل عليها بكثرة، يشير عيسى بينما هو منهمك في العمل، إلى قطع غيار السيارات مثل المقابض المفصلية (كاردان) التي يحوّلها ببراعة إلى أزاميل quot;مناقيرquot;، تماما مثل قضبان حديد التسليح التي يحولها أيضا إلى أدوات نازعة للمسامير، إضافة إلى القطع الحديدية المختلفة التي يقوم عيسى بتصنيعها إلى مناجل ومعاول وقضبان صغيرة تستخدم لشد النوافذ، علما أنّه تمكن من تحويل نابض السيارات إلى سكاكين ونابض الشاحنات إلى سواطير، مثلما يتطلع إلى تفنن أكبر في مجال رسكلة الحديد غير المستعمل.


ويلفت عيسى إلى أنّه يعتمد كليا على أدوات كان قد صنعها بنفسه ليستعين بها في عمليات تحويل الحديد إلى ما يريد من عتاد، ويوظف عيسى بعض الماسكات الحديدية والمطارق إضافة إلى سندان ومجمرة وقليل من الفحم الحجري المتقد، ويشرح عيسى أنّ الكير التقليدي الذي يتم نفخه بالكيس الجلدي قد اختفى كليا ليحل محله كير صناعي ينفخ فيه بوسائل كهربائية مثل المروحة الهوائية.
ورغم التحديث المسجّل، إلاّ أنّ هذا الحرفي يفضل الاعتماد على ما هو يدوي، ويبرر ذلك بكون الطريقة اليدوية تضفي مزيدا من الجودة والنوعية الراقية على منتجات الحدادة، ويلاحظ عيسى أنّه لا يتردد في بعض الأحيان عن استخدام قطع غيار السيارات والشاحنات بل وحتى الرافعات، لإخراج تحفه في أبهى الحلل.


ويستعرض عيسى لائحة المنتجات الأكثر طلبا ورواجا، وهي لا تكاد تتعدى بحسبه الأزاميل والفؤوس والمناجل، مع الإشارة إلى أنّه حتى الأخيرة لم تعد مطلوبة بالشكل الذي كانت عليه من قبل، في وقت توقفت عمليات التلحيم التي كان يُعتمد عليها في وضع حوافر الخيول، ويحذّر عيسى من عواقب إلحاق quot;الحدادةquot; بأي نشاط آخر، مسوّغا نظرته بأنّ لهذه الحرفة مجالها الذي لا يمكن الخروج عنه، مشددا على أنّ تحويل كل ما هو يدوي إلى كهربائي، معناه زوال الحرفة التقليدية.


ويعزو quot;عيسى رمضانquot; سر بقائه وحيدا في مدينة المسيلة، إلى مقاومته الدائمة وغيرته الكبيرة على الحرفة لأجل الحفاظ عليها والحيلولة دون اندثارها، ولا يخفي عيسى مواجهته مصاعب جمّة، على غرار نقص الفحم الحجري الذي حتى وإن توفر، فإنّ سعره الباهظ (14000 دينار للقنطار) ليس في المتناول، ولا يمكن لأي حدّاد الاستغناء عن الفحم الحجري، كون المواد الأخرى مثل الفحم الخشبي وغيره لا تعطي طاقة حرارية قوية، أضف إلى أنّ استعمال فحم الخشب يتطلب توفير كميات كبيرة تعادل عشرين مرة الفحم الحجري، ويصطدم آخر حرفيي الكير بصعوبات أخرى كقلة الطلب على المنتوج المصنع يدويا، بالمقابل، صارت الحدادة العصرية تحظى برواج أكبر، ما يستدعي التفاتة ذات بال من لدن القائمين على ميدان الصناعات التقليدية، في وقت لا يزال عرّابو الهيئات الرسمية يواظبون على التوكيد بأنّهم يولون أهمية قصوى لحماية الحرف من الزوال وإعادة بعثها حتى لا تمحى من الذاكرة.


ويجمع quot;مصطفىquot;، quot;مجيدquot; وquot;محمد الصالحquot; وهم حدادّون قدامى تخلوا عن هذه الحرفة، على أنّ الاهتمام بحرفة الحدادة ذات القيم الاجتماعية، يتوجب دعمها ماديا ومعنويا من طرف الجميع، ولا ينبغي أن يتم بطرق تحمل في طياتها الجانب الاستعراضي أو المناسباتي، حيث عادة ما يُطلب من الحدادين إنجاز أشغال معنية ليتم التخلي عنه لمدة طويلة، ويلتقي محدثونا في كون تأمين هذه الحرفة يجب أن يمر عبر قنوات التكوين وتوجيه الشباب إلى هذا الميدان عبر فتح تخصصات على مستوى مراكز التكوين المهني، وتشجيع الممارسين من خلال قروض وتسهيلات تسمح لهم بالوفاء للحرفة وموجباتها.