فراس حسن من دمشق: أكثر من عشرين عاماً مضت على آخر مرة ساعدت والدتي في تنظيف بقعة الشارع الممتدة أما بيتنا من الجدار إلى الجدار، عندما كنا نتسابق مع الجيران للخروج في الصباح الباكر حاملين المقشة والرفش (الجارود )، لننظيف بقعتنا من الشارع قبل الآخرين، وغالباً ما كنا نتجاوز بقعتنا يميناً أو يساراً لننظف أمام بيت جارينا الملاصقين لبيتنا، لأن إحداهن سبقتنا في اليوم السابق ونظفت المساحة أمام بيتنا، والتي يفترض أن تكون من نصيبنا، فرد الجميل واجب.


أتذكر الآن عذوبة تلك الصباحات، خصوصاً الصيفية منها، وأذكر رائحة التراب المرشوش بالماء كي لا يتصاعد الغبار أثناء تكنيسنا للشارع، وتحضرني تلك الأيام عندما يتوقف المطر بعد يوم أو أكثر من هطوله بغزارة، كيف كنا جميع أطفال الشارع مع أمهاتنا، نحمل بهجتنا وصخبنا فرحين بهطول المطر ونخرج للشارع مع أدوات التنظيف من مقشات وقشاطات (مماسح) لنبدأ بحماسة لا يضاهيها إلا صخبنا نحن الأولاد بالعمل على نزح المياه والأوحال المتجمعة على طول الشارع الغير معبد، وإخراجها من الشارع الضيق ودفعها حتى أقرب مصرف للمياه.


إذا افترضنا أنك سوري مغترب عائد إلى حيث تركت جذورك في حي من أحياء دمشق الشعبية الفقيرة، لتنشق عبير بلادك، أو لأنك اكتفيت من الترحال في بلاد الله الواسعة، ورجعت تبحث لنفسك عن قطعة من طمأنينة وسلام لتستريح، بعد أن أعيتك الغربة، تستعيد فيها أيام طفولتك البريئة الصاخبة، وتلك الصباحات الرائقة، فننصحك بأن لا تتفائل كثيراً.


دمشق اليوم، وخصوصاً أحياؤها الفقيرة، ليست تلك التي تعشش في ذاكرتك وهي نفسها في آن، هي نفسها لأن الخدمات فيها لم تتطور كثيراً، لأن بلدياتها ما زالت تحافظ إلى حد بعيد على مستوى الخدمات نفسه الذي تعرفه منذ عشرين أو ثلاثين سنة، وكأنه تراث لا بد من الحفاظ عليه كما تفعل بلديات قرطبة، وغرناطة عندما تحافظ على طراز العمارة الأندلسي في مبانيها القديمة.


وهي ليست نفسها لأن ناسها تكاسلوا مصدقين تقارير البلديات وأمانة عاصمة دمشق حول الواقع الخدمي والصحي في المدينة، فتوقفوا عن الاهتمام بنظافة مدينتهم بأنفسهم، وأخذوا ينتظرون عمال البلدية ليقوموا بأعمال الصيانة وجمع مخلفاتهم من الشوارع، بل أكثر، يعتقدون أن لديهم في شوارعهم الضيقة والمليئة بالحفر، عمال نظافة يدفعون براميل القمامة أمام دراجاتهم المخصصة لذلك، وبيدهم ملاقط لجمع القمامة، تماماً كما في الأفلام التي يرونها على الفضائيات عن مدينة باريس مثلاً... أو ربما ظنوا أن وجود بضع عربات لجمع القمامة عن الرصيف بطريقة شفط الهواء في أفخم أحياء دمشق، وعلى رصيف أمانة العاصمة يعني أن الحالة أصبحت عامة في كافة شوارع دمشق وحواريها.


إيلاف التقت بعض الدمشقيين محاولة استطلاع الوضع في المدينة، وتلمس أراء سكانها بشوارع مدينتهم وأسباب التراجع بمستوى النظافة فيها عما كان عليها من قبل.


لم يعد هناك اهتمام
خلود 30 عاما دمشقية ولدت في المدينة وقضت حياتها فيها، تقول صحيح كنا من قبل نعمل يداً بيد على تنظيف شوارع حينا، وكنا نقوم بذلك ربما بدافع quot;احترامنا للجيرانquot; لكن الوضع تغيير الآن ربما لبرود العلاقات الاجتماعية وقلة التواصل بين الناس في المدينة التي تنمو بشكل يومي، وأصبحت تحوي quot;ما هب ودبquot; وكذلك لضيق وقت الناس وملاحقتهم لمتطلبات الحياة الملحة والضاغطة أكثر من قبل، وتؤكد خلود بأن المسألة ليست مسألة تراجع في وعي الناس لأهمية النظافة بقدر ما هي قلة اهتمام quot;الناس بيعرفوا أنو لازم ينضفوا شوارعهم وبيعرفوا إنو ما لازم يكبو زبالة بالشارع، بس ما بقى اهتموا بالموضوعquot;.

أبو خالد، موظف متقاعد حديثاً، ينظف أحياناً أمام بيته فبعد التقاعد أصبح لديه الكثير من الوقت، quot;أحياناً بمل ومابعرف شو بدي إعمل وبشوف الشارع قدام البيت وسخ بنزل بنظف يعني بتسلى وبشغل حالي أحسن من القعدة بلا طعمةquot;، يتذكر أبو خالد أيام طفولته عندما كانت والدته quot;المرحومةquot; تقوم يومياً بتنظيف الشارع أمام بيتهم في القرية، حيث كانت عملية التنظيف هذه واحدة من الأعمال الأولى في الصباح الباكر بعد أن تخرج الحيوانات من الحظيرة والدجاجات من قنها، وبعد أن تقطف ثمار الأشجار القريبة من المنزل قبل أن تزداد حرارة الشمس صيفاً، quot;كانت يومياً تكنس قدام البيت وترشرش مي، وبعدين ترش الحب للجاجات، كانت أيام حلوةquot;، ويذكر أبو خالد أن سيدة المنزل التي لم تكن تنظف أمام منزلها في تلك الأيام ستكون موضوع من مواضيع نميمية نساء الشارع في صباحياتهم في حال تخلفت عنها، طبعا أيضاً في اللقاءات الثنائية أيضا، فنساء القرية لا يجدن ما يسلين به أنفسهم سوى الحديث عن الناس quot;فلان عمل هيك وعلتان عمل هيك المرة الي ما بتهتم بنظافة بيتها معرة معيوبة برأي أهل القرىquot; أما هذه الأيام فحتى في القرى لم يعد الناس يهتمون لما يفعله الآخرون كما من قبل، يتوقف أبو خالد قليلاً عن الحديث ليستدرك قائلا quot;النميمة أيامها ما كانت كلها بقصد السوء، بالعكس الناس كانوا يحبوا بعض ويغاروا على بعض، والنميمة أغلبها كان لتضييع الوقت ويعرفوا أخبار بعضهم البعض، اليوم ما عاد حدا سائل عن حداquot;.


المسألة مسألة ذوق وأخلاق
عصام، شاب في العشرين من العمر، حدثنا كما لو أنه بتكلم بلسان أربعيني أو أكبر قليلاً، فهو يرى أن المسألة ومسألة أخلاق وذوق، quot;وهادا الجيل ما عندو أخلاق أيام زمان وقت اللي كانوا الناس يهتموا ببلدهم ويحسبوا حساب لبعضquot;، ويعتبر عصام أن أيام زمان بجمالياتها رغم الفقر الذي كان قد ولت إلى غير رجعة وولت معها أخلاق ناسها، وولت مع أخلاقهم نظافة ورتابة شوارع المدينة، وأبناء هذا الجيل ليسوا على قد المسؤولية و quot;ما بيحترموا الأصول، لا أصول الدين ولا أصول الأخلاق أو المعاملةquot; ويعتبر أن كل الجوانب مرتبطة ببعضها البعض لأن quot;الدين معاملة بالأصلquot; والناس ابتعدت عن دينها وبالتالي ابتعدوا عن كل ما هو جيد وجميل وفيه خير للمجتمع.


لميا وهي سيدة في الخامسة والستين كانت تنظف الشارع أمام بيتها حتى قبل عامين عندما تركت بيتها العربي وانتقلت إلى شقة في الطابق الثاني، أصبحت تكتفي بتنظيف المساحة الصغيرة أمام الشقة، تعلق على الشوارع الوسخة، وعدم تنظيف quot;بنات هالأيامquot; للشارع أمام منازلهن قائلة quot;ما عاد في حيا يا خالتي، أيامنا كانت الوحدة مننا تستحي إذا كان قدام بيتها وسخ، وتخاف من حكي العالم بس هالأيام ما عاد في حيا ـ تكرر ـquot; وتؤكد لو أنها ما تزال في بيتها العربي القديم كانت ستستمر في تنظيف الشارع، وتؤكد quot;مين رح ينضفو غيري، يعني بدي استنا على الزبال (عامل النظافة)، الزبال عندو أشغال كتير شو بدو يلحق لحتى يلحق المسكينquot;، حسب لميا النظافة ليست مسؤولية الدولة فقط بل هي مسؤولية quot;الأهالي، كمان ولازم يشاركوا بتنظيف بلدهم على الأقل قدام بيوتن، إيد وحدة ما تصفقquot;.


يسرقون سلال المهملات
أبو محمود وهو عامل نظافة، سألناه وعن أسباب ضعف خدمات البلديات في هذا القطاع برأيه، فقال: quot;يا أخي نحنا ـ ويقصد عمال النظافة ـ قلال ما منكفي، يعني لازم يكون في قدنا تلات أو أربع مرات إذا بدكن ايانا نلحق انظف كل الشوارع منيحquot; نستفسر من أبو محمود عن دور المواطنين الآخرين وعن أدائهم في هذا الجانب، أي المساهمة في تنظيف المدينة فيجيب quot;هاد سبب تاني كمان، المواطن ما بيهتم تقول عم يكب الزبالة ببلد غير بلدو، يعني إذا الناس ما ساعدونا ما منقدر انظف البلدquot;، استفسرنا منه عن كيفية المساعدة وشكلها، فرد قائلاً quot;كتير بسيطة الناس ما يكبو المحارم والقناني والأوراق وأي شي بيكونوا حاملينو بينحل نص المشكلةquot;، لفتنا انتباهه إلى إن المدينة تحتاج إلى آلاف سلال المهملات لكي يصبح اقتراحه ممكنا، فيؤكد لنا أن البلديات تهتم بهذا الموضوع ولكن ليس بالشكل الكافي، ثم يذكر بلهجة عصبية أن البلديات في بعض الشوارع وزعت سلال مهملات ولكن تجار الخردوات ـ غالباً ـ يسرقونها، quot;أكتر من مرة البلدية توزع سلات زبالة بعد يومين أو تلاتة تختفي السلال، بيبعوها لمعامل البلاستيك... بتروح على الطحنquot; ويقصد يعاد تدويرها.


عندما عبرنا عن تفاجئنا بما يقول أكد أن هناك من يسرق ليس فقط سلال المهملات بل أيضا كوابل الهاتف المكشوفة ويذكر لنا حادثة ذكرت في الجرائد الرسمية وقتها عندما تكررت سرقة كبل محوري / رئيسي أكثر من مرة في نفس المنطقة عندما كانت الكوابل مكشوفة بسبب الأشغال العامة، ولم يتوقف السارقين عن تكرار العملية حتى قبضت عليهم الشرطة، وينهي حديثه بالتأكيد على تقصير المؤسسات الحكومية معتبراً أن ذلك لا يعفي المواطن من مسؤولياته تجاه بلده.


تعبير عن فقدان الشعور بالمواطنة
سلمى طالبة حقوق في جامعة دمشق، ترى أن المشكلة في التغييرات السياسية والاقتصادية التي طرأت على سوريا في الثلاثين أو أربعين سنة الأخيرة، فبدلاً من تعزز الأحزاب السياسية والنخب الثقافية الحس الوطني عند المواطنين، وبدلاُ من أن تعمل الدولة على تعزيز الشعور بالمواطنة وحب البلد، حدث العكس بسبب الفقر والتخلف والكذب والنفاق السياسي من كل الجهات، الأمر الذي أدى إلى توطن اليأس في نفوس السوريين، بحيث أصبحوا لا يعبئون بما يحدث في بلدهم، وبدأ المجتمع شيئاً فشيئاً ينتج مفاهيم ضارة للمجتمع على كافة المستويات (الاقتصادي السياسي والأخلاقي) فبعد أن كان احترام الجار والإسراع إلى مساعدته ونجدته وبالحد الأدنى إقامة علاقات ود وصداقة مبنية على الاحترام، أصبح الناس يتجهون إلى عدم الثقة ببعضهم البعض، والسعي لاستغلال بعضهم البعض بأي وسيلة، فانتشرت القيم الانتهازية والطفيلية في المجتمع، وحلت محل الأخلاق الحميدة، والمفاهيم الإيجابية مثل النخوة، والغيرة على البلد وأبنائه، مفاهيم تبرر سرقة المال العام وتخرب أملاك الدولة واستغلالها لمآرب شخصية، وبدلاً من التغني بسمات مثل الكرم الصدق ونظافة اليد واللسان، بدأت تنتشر قيم مناقضة بشكل ما، تحت مسميات مواربة مثل quot;الحربقةquot;، أي القدرة على المراوغة والخداع، وانتشار تعابير من نوع quot;تعبير قد حالو، وبدبر راسوquot; كتعبير عن قدرة الشخص على استغلال الآخرين وعدم السماح لهم باستغلاله، فقد بدأ الناس يشعرون ـ إلى حد بعيد ـ بأنهم يعيشون في مجتمع الغاب، الغلبة فيه لأكثرهم انتهازية، وقدرة على الكذب، والمراوغة، والنفاق، وانتهاك حقوق الآخرين دون التعرض لمحاسبة القانون، الغائب أصلاً.


الحل في تطبيق القانون
رباب زميلة سلمى تؤكد على ما ذكرته سلمى وتضيف أن هناك مسؤولية تقع على الدولة، فالمواطن بحاجة لمن يقول له إن هذا خطأ وذاك حرام، نقاطعها قائلينquot; ولكن هذه الأمور واضحة ومن البديهياتquot; تتابع quot;ولو حتى لو كانت واضحة، لازم نذكر الناس بالحد الأدنى، ونشرحلهم نتائج أفعالهم الخاطئةquot;، وتعتبر رباب أن وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والتربوية تتحمل المسؤولية الأكبر في تغيير الوضع، فهناك حاجة لحملات توعية مستمرة في هذا المجال، ولا تكفي الحملات التي قام بها التلفزيون السوري في السابق في ثمانيات القرن الماضي أو بداية تسعينياته، يجب الاستمرار بهذه الحملات، وتضيف، لا تكفي حملات التوعية بل هناك حاجة لسن قوانين تحاسب المسيئين لمنظر البلد وللصحة العامة فيه، أو تفعيلها إن كانت موجودة وأغلب الظن لدينا مثل هذه القوانين، ولكن بدون محاسبة لا يمكن أن تؤثر.
تستطرد قائلة quot;ما في حل غير المواطن يتوجع، أكثر شي بيوجع الجيبةquot; في إشارة إلى ضرورة فرض غرامات بمبالغ كبيرة على المخالفين.


بدنا ستالين عربي
أبو أسعد، عجوز في السابعة والستين، يتفق مع رباب وسلمى في ضرورة فرض القانون ولكنه يتطرف بشدة في مطالبه، إذ يرى أننا بحاجة لستالين عربي كي يجعل الناس تلتزم بالنظام، بل يصر على ضرورة وجود شخصية كهذه مردداَ لأكثر من مرة قائلاً quot;خيوه بدا ستالين القصة، خاصة نحنا العرب ما منفهم غير هيك، يعني لو يعدمولهم كم واحد لأنهم ما بيمشوا على القانون بتنحل القصةquot; لكن ولده يعلق على حديث والده ساخراً مصراً على أن فكرة والده ستنتهي إلى إعدام الغالبية العظمى من المواطنين فيما لو أخذ أحدهم بها، في تعبير عن أن الخطأ عام ومستفحل بين الناس حتى يكاد من المستحيل تقويمه quot;ستالينك هون رح يعدم كل الشعب وما يضللو حدا يحكمو، خلي استالين بحالو ونحنا بحالنا وشو ما عملنا رح تضل عوجاquot; ويتابع معبراً عن استحالة إصلاح الوضع حسب ظنه إلا بإصلاح حال المسؤوليين عن تطبيق القانون والتحقق من حسن قيام كل بواجبه quot;يا أخي الخط الأوعج من التور الكبيرquot;


أخيراً أعتقد أننا لو عرفنا أن السوريون مشهورون ليس فقط في البلدان العربية بل في أوروبا أيضاً بنظافتهم واهتمامهم بنظافة بيوتهم لا بد سنفاجأ عندما نزور سوريا، إذ يبدو كما رأينا على الواقع تقتصر النظافة بالنسبة للسوريين على النظافة الشخصية ونظافة المنزل، ونظافة المدينة ككل لم تعد تعنيهم بشيء، رغم أن النظافة العامة كانت واحدة من التقاليد الراسخة في المجتمع السوري كما نعرف وكما أكدت شهادات اللذين التقيناهم، ربما فقد السوريون هذا الاهتمام كما فقد المجتمع السوري الكثير من سماته الإيجابية بفعل التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية كما ذكرت محدثتنا سابقاً.