زيارة عدن خلال دورة quot;خليجي 20quot; كانت فرصة لاكتشاف مدينة تحمل الكثير من الود مع أن فيها من الجراح الكثير. لكن الزائر كما هو مراسل quot;إيلافquot; يتركها مع ذكريات لا تمحى.
quot;أهلا بكم في عدنquot;.. quot;أهلا بكم في خليجي 20quot;... وداعا عدن.. وداعا quot;خليجي 20quot;. أربعة عشر يوماً كانت فاصلة بين الترحيب والوداع، في مدينة اختزلت من التاريخ اليمني الكثير من الحب والحرب، الكثير من الدم والورد.
عدن، هذه المدينة ثلاثية الحروف.. حروف لا تقبل الإنتظار، تتلقى الدعوة فيصعب عليك أن تردها.
في صنعاء لا يفصل بيني وبين عدن سوى 363 كيلومتراً.. وفي طريقي إلى هناك سأمر على أربع محافظات ذمار وإب وتعز ولحج، ثم سأصل إليها من بوابتها الشمالية المحاذية لمحافظة لحج المكتظة بأشجار المانغو والفل.
سينتقل الطقس تدريجيا من برد قارس جعل زميلي فارس لا يقوى على الإمساك بمقود السيارة أثناء انطلاقنا من صنعاء، إلى جو معتدل في تعز ليستمر هذا الإعتدال تدريجياً وترتفع الحرارة قليلا في لحج مع شمس الظهيرة، لكنه ما يلبث أن يعود للإعتدال عند وصولنا إلى عدن.
أجمل الأيام هذه هيلمن أراد أن يزور عدن، فطقسها معتدل، درجة الحرارة لا تتجاوز الـ 30 عند الظهيرة، وفي الليل يمكنك السهر حتى الفجر على كورنيش الشهيد قحطان الشعبي، أو كما يسمى شعبيا quot;ساحل أبينquot;.
ذكريات الرياضة
كان الأمر غير مرتب له مسبقا، بدأت جلسة فردية مع مراسل الجزيرة حمدي البكاري لتتسع الدائرة تدريجياً فتشمل إعلاميين من وسائل إعلامية مختلفة، ثم اكتملت الجلسة مع كابتن منتخب جنوب اليمن في السبعينات والثمانينات حسن عمر. هذا الرجل الممتلئ بالحكمة والفكاهة، بالقهر والأمل، بكثير من الصبر، يداه خشنتان كصخر جراء سحب الشباك، ليست شباك المرمى بالطبع، لكنها شباك الصيد، فهو يعمل صياد أسماك حاليا.
يفتح حسن باب الذكريات ويعود إلى أيام منتخب جنوب اليمن فترة ما قبل 1990، حين كان الفريق يخسر بالجملة أثناء فترة الحرب الباردة وبطولة quot;الجيوش الصديقةquot; في الإتحاد السوفيتي.. حينها هزمت اليمن بـ 6 أهداف من المنتخب الروسي، فسألناه أين كان موقعك حينها رد بسخرية: quot;كنت مشجعاًquot;.
كل شيء تم تحليله في تلك الجلسة التي استمرت لخمس ساعات تقريباً، من هزيمة المنتخب اليمني إلى مستوى التنظيم، وكرم ضيافة اليمنيين.
يقول خالد الجرادي وهو أحد الضيوف من سلطنة عمان: quot;لست أدري إن كان الأمر غباءً أم كرماً حقيقياً حين يرفض سائق تاكسي أن يأخذ منك الأجرة في موسم كهذا، وهذا ما حدث معي فعلاًquot;.
عدن .. للتاريخ سطور
حين تمر على مفاصل عدن يصادفك عند كل منحنى تاريخ يذهب بذاكرتك بعيداً، ستمر على نفق القلوعة، حيث وقع الرئيسان علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض إتفاقية الوحدة عام 1989، وستخرج على ميناء التواهي وسيقال لك إن هذا الميناء هو الذي هوجمت فيه المدمرة الأميركية يو إس إس كول عام 2000.
ستنظر في أحد القصور العتيقة حيث كان يسكن الشاعر الفرنسي رامبو، وهناك في مكان آخر تمثال للملكة البريطانية فيكتوريا. وهناك أيضاً ستجد ساعة quot;بيغ بنquot; أو quot;ليتل بنquot; وهي ثاني ساعة بنتها بريطانيا بعد quot;بيغ بنquot; لندن وبنيت عام 1890، أثناء احتلال عدن الذي استمر 138 عاماً وانتهى في العام 1967 من جنوب اليمن.
في هذه المدينة عرف الناس أقسى المعارك الدموية وأكثرها ضحايا، هنا وقعت مجزرة 13 يناير 1986 بين رفقاء الحزب الإشتراكي الذين انقسموا إلى جناحين واقتتلوا في مقر قيادة الحزب، ثم في الشوارع ليصل عدد القتلى إلى قرابة العشرة آلاف شخص أو أكثر كما تقول الروايات.
هنا أيضا قاتل مناضلو الثورة جنود الإنكليز، وهنا قتل من قتل وجرح من جرح وأسر من أسر في تلك الحقبة.
هنا شهد الرئيس علي عبد الله صالح على أبرز انتصار عسكري في تاريخه في العام 1994، على قيادة الحزب الإشتراكي الذي أراد الإنفصال عقب أزمة سياسية استمرت 3 أعوام.
من يزور عدن فلا بد أن يمر على quot;صهاريج الطويلةquot; السد المائي التاريخي الذي بني قبل مئات السنين، لكي يحمي عدن من السيول ويغذيها بمياه الأمطار وتكاد تكون رمز عدن، إضافة إلى خليج الفيل، وقلعة quot;صيرةquot; الأثرية.
اليوم تنفض عدن عن كاهلها ثوب الدم، لتلبس ثوب الرياضة حيث ينسى الناس آلامهم وجراحهم طوال تلك السنين.
ملعب الوحدة
في ملعب 22 مايو، الملعب المسمى بتاريخ تحقيق الوحدة بين شطري اليمن في العام 1990، كانت أبرز مباريات quot;خليجي 20quot; وحفل الإفتتاح والختام.
في مباراتي نصف النهائي بين الكويت والعراق، والسعودية والإمارات، كنا هناك بين جمهور سعيد لا ينقصه سوى بطولات كهذه ليعيش الفرحة بكل شغفها.. حينها لم يكن ينقصني سوى آلة الفوفوزيلا الإفريقية لأصل بفرحي إلى ذروته.
وسط ذلك الجمهور تنسى من تشجع إذا لم تأت محملا بأجندة تشجيعية، لكن يكفي أن يعلن مذيع الملعب اسم قطر لاستضافة كأس العالم 2022 لتنفجر كقنبلة فرح، ولا بأس أن تشعر بالدوار وتسقط بين كراسي الجمهور من شدة الصراخ فرحاً بذلك الإنجاز.
أي لحظات مجنونة هذه.
أكثر من 6 ساعات قضيناها في الملعب، منذ الثالثة عصراً وحتى العاشرة حين انتهت مباراة الإمارات والسعودية، لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد. فالأجواء كانت تستدعي الفرح وبالفعل خرجنا من الملعب واشترينا الفوفوزيلا وجبنا شوارع عدن مع السيارات والجمهور المحتفل.
حين فكرنا بزيارة عدن سألنا سؤالا، quot;متى ستتكرر هذه التجربة كي نعيشها؟quot; وحينها حسمنا أمرنا لشعورنا بأن أمراً كهذا لن يتكرر قريبا.
عدن المدهشة
في عدن رأينا الدهشة في عيون الزوار، ها هم يشاهدون مناظر لم يعتادوا عليها.. عائلات تقضي الليل بأكمله في ساحل أبين، الأطفال يلعبون وأسرهم تتناول العشاء والمكسرات وتدخن الأرجيلة.
مشهد لا يتكرر كثيرا في منطقتنا.. مراكز تجارية تعج بالزوار من الأفراد والعائلات، شواطئ كثيرة تفي بغرض عشاق البحر والسباحة وركوب القوارب وتناول الأسماك.
أكثر ما يغيظك في عدن هو غلاء السمك، لست أدري ما الذي يجعل السمك في صنعاء البعيدة كل البعد عن البحر أرخص من السمك في شواطئ عدن.
لا تنسوا حين تزورون عدن أن تشربوا quot;الشاي العدنيquot; خصوصا في أسواق كريتر والتواهي، فهناك سحر الشاي، لأنكم حينها ستقتربون من محلات البخور العدني الذي لا يستغني عنه زوار المدينة.
يصف الصحافي منصور الجرادي في حديث مقتضب لـ quot;إيلافquot; أن من يزور عدن quot;يسكن روحه اطمئنان ربما لا يوجد في مكان آخر، ينسى هموم العمل، وهموم مدن الضجيج.. سيجد البساطة عند الناس، إضافة إلى التنوع الثقافي لديهم، وتعاملهم الراقيquot;. ويضيف: quot;في عدن هناك جاذبية خاصة للبحر، فهو محيط بها من أغلب الإتجاهات، ستجد في كل الشوارع شواطئ، وستجد نفسك هادئاً بعيداً عن الشد النفسي الذي نعيشه في مدن يسودها التوترquot;.
تحتاج عدن لكثير من الوقت كي تذوب في تفاصيلها وتخرج بشعور أكثر روعة، لكن أحيانا قد يحلو للبعض أن يحتفظ لنفسه بدهشة البداية، فيفر بها كي يعود ثانية دون أن يخسر كثيراً من الود للمكان.
هو خوف الخسارات التي تلحقها بنا الزيارات المتكررة لأماكن أحببناها قبل اكتشاف بعض التفاصيل، مع أني أؤمن أن عدن لا تخفي سوى تفاصيل أروع.
قلت للصحافي صدام أبو عاصم: صف لي عدن باختصار، فقال: quot;ابتسامة دائمة لثغر اليمن.. تبدو باسمة في وجوه الجميع.. حتى أولئك الذين يزورونها لأول مرة، تمنحهم شعورا بالألفة والحب والدفء وتجدهم جميعاً عندما يهمون بمغادرتها مرغمين، أن يتغنوا بما جاء على لسان أبو بكر سالم quot;كل شيء معقول.. كل شيء مقبول.. إلا فراقك يا عدنquot;.
التعليقات