تفتّحت العيون على قضيّة الاغتراب اللبناني بعد تحطّم الطائرة الاثيوبية، إذ إن هول الكارثة دفع اللبنانيين إلى التفتيش عن السبب الذي أودى بحياة 90 شخصًا.
بيروت: تُجمع الدراسات على أن الحروب التي شهدها لبنان هي من الاسباب الرئيسة التي دفعت أبناءه الى الهجرة خصوصًا لما يترتب على الأوضاع الأمنية من تداعيات اقتصاديّة وانعكاسات معيشيّة. فخلال الحرب الأهلية التي امتدّت من سنة 1975 الى سنة 1990، طاولت الهجرة نحو 30 في المئة من اللبنانيين. أما بين سنة 1992 و2007 فتشير دراسة قامت بها جامعة القديس يوسف إلى أن حوالى نصف مليون شخصًا غادروا لبنان، 77 في المئة منهم من فئة الشباب.
ويحتل لبنان حاليًا أعلى نسبة مهاجرين في العالم، إذ تشير دراسة المنظمة العالمية للهجرة إلى أن لبنان البلد الأول في العالم من حيث كثافة الهجرة مقارنة بعدد سكانهmiddot; وثمة تقديرات تتحدث عن وصول عدد المهاجرين وأبنائهم والمتحدرين منهم إلى نحو 11 مليونًا في انحاء العالم، في حين أن عدد المقيمين في لبنان يقارب الأربعة ملايين ونصف المليون كحد أقصى.
ضيق المعيشة وقلة فرص العمل دفع كريم الى ترك بلدته دير قنطار في جنوب لبنان بعد نيله البكالوريا، للعمل في نيجيريا، غرب افريقيا. لا يعمل كريم في تجارة الالماس ولا في النفط ، بل يمضي نهاره منذ سنتين في احد محلات الالبسة لتأمين معيشته والعودة الى بلدته حيث يحلم ببناء بيته الخاص والزواج من فتاة احلامه. ويقولكريم : quot;سأعود بعد ثلاث سنوات، لاتزوج. لكن عليّ أن أصبر قليلاًquot;.فهو يتقاضى1000 دولار شهريًّا، يرسل 400 دولار إلى لاهله، ويدّخر الباقي.
ولم تتسنَّ لكريم فرصة دخول الجامعة. فهو كبير اخوته. فيما هم يتعلمون يساعد هو اباه في العمل في الغربة. ويرىأن quot;في لبنان لا أحد يحترم كفاءات الشبابquot;.
ومن لحظة استيقاظه في الصباح الباكر وحتى ساعة نومه لا ينفك هاجس العودة ينتاب خياله. لا تلفته نيجيريا وما فيها. فهو منشغل دائماً بالعودة.اشتاق كثيرا إلى quot;الفاصوليا والملوخيةquot; التي تطبخها أمه. وهي ترسل إليه بعض أنواع المونة موسميًّا، من زيتون وكشك ومكدوس ودبس. يحزنه الا يرى احدًا من افراد عائلته يشاركه الطعام. يشتاق كثيرا اليهم quot;هم دائماً في بالي. أمي ودعاؤها على الهاتف. حتى والدي الذي يقسو أمامي، أعرف كم هو مشتاق إليquot;.
يتواصل كريم يوميا مع عائلته عبر الإنترنت ويزورهم كل تسعة اشهر. اهم ما تقوله أمهquot;انتبه يا ماما. اتغطى منيح. شو عم تاكل؟quot; أسئلة لا ينكر كريم انها تبكيه، لكنه لا يظهر حزنه أمام أمه. quot;يجب أن أبقى قوياً في عينهاquot;.
ربّى صداقات كثيرة في افريقيا، لكنه لا يدخل في أجواء بعض أصدقائه الذين quot;يصرفون أموالهم على أمور تافهة كالجنس أو السهرات وتناول الكحولquot;. تعرّف إلى لبنانيين مثله، وعلاقته بهم تزداد قوة، quot;أصلاً ما إلنا غير بعضquot;. ولكّنه يحنّ كثيرًا الى بلدته، الى مباريات كرة القدم في الصباح، سهرات الضيعة، السينما في صور، quot;الكزدورة نحن والصباياquot;... بعد فاجعة الطائرة لم يخف كريم. quot;الأعمار بيد الله. و قليلة هي حوادث الطائرات. ولكن لولا الحاجة، لا اسافرquot;.
تجربة مكلفة
الحاجة، دفعت لارا ايضًا ، ابنة الـ26 ربيعًا، الى الابتعاد عن اهلها واصدقائها. حازت شهادة في الصيدلة من الجامعة الاميركية - اللبنانية وسافرت فور تخرجها الى الولايات المتحدة الاميركية بعدما اختيرت بين عدد من الطلاب للعمل في احدى اهم شركات الادوية في البلاد، حيث ستمكث حتى حصولها على quot;الغرين كاردquot;.
لا شك ان كفاءة لارا العالية سمحت لها بالحصول على هذه الوظيفة، لكن سوق العمل اللبناني لم يشجعها على استثمار طاقتها فيه، وهي متأكدة انها لن تتقاضى مبلغ 8000 دولار في لبنان مهما تقدّمت في مجالها. والرقم ليس خياليًّا في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان التي تستقبل اللبنانيين لتستفيد من طاقاتهم المميزة.
ترسل لاراالمال إلى أهلها شهريًّا. وهي مرتاحة وتشارك يومياتها مع لبنانيين بغية العيش في مستوى حياة لائق. لكنها، على الرغم من شعورها باكتفاء ذاتي وسعادة داخلية، تشتاق باستمرار الى اهلها واصدقائها في لبنان. لم تدرك قسوة الغربة إلا حين اصبحت في الخارج.
وتقول إنها عندما أقلعت بها الطائرة من مطار بيروت قبل ثلاثة اعوام لم تكن تدرك الكلفة الباهظة للإبتعاد عن الوطن والاهل. كانت في ذروة الفرح عند حصولها على الوظيفة، وسارعت في الرحيل متحمسة للغوص في التجربة الجديدة.أما الآنفهي اصبحت تدرك مرارة الحياة في بلاد الاغتراب.
والى الذكريات الحميمة ودفء العائلة ومحبة الاصدقاء، تأخذ لارا معها بعض الطعام اللبناني الذي تحرص والدتها امها على توضيبه في حقيبة خاصة، علّه يغنيها لبعض الوقت عن الطعام الاميركي. تشتاق كثيرًا إلى اختها التوأم التي تربطها بها علاقة عاطفية قوية . واكثر ما يؤلم لارا هو عدم امكانها للتحضير ليوم تنتظره جميع الفتيات بفارغ الصبر: يوم زفافها. ستتزوج هذا الصيف في لبنان. لكنها لا تستطيع ان تترك عملها لتحضّر لزفافها. لذلك تتولّى عائلتها جميع التجهيزات. ولا تنفك تقول لاهلها بحسرة: quot;يا ريت بقدر كون معكنquot;، قبل ان تتدارك ذاكرة اهمية الصبر في بلاد الاغتراب.
التعليقات