تحل ذكرى حرب تموز 2006 وسط أجواء سياسية غير مطمئنة، لكن رغم الاضطرابات يعج مطار بيروت بالزوار العرب والاجانب وبابنائه. وفيما اكد لبنانيون غادروا لبنان وقت الحرب على مشقة عملية الاجلاء التي تمت عبر قبرص أو سوريا، فهم اظهروا انقساما حول العودة الى وطنهم.

الوصول الى قبرص.

كنتاكي: كان س.ج. نائما بعد ان امضى ليلة عصيبة اثر تصعيد القصف الاسرائيلي على الضاحية الجنوبية في بيروت، وأيقظه اتصال من مسؤول في السفارة الاميركية في عوكر يطلب منه التوجه الى مرفأ جونيه في اقرب وقت ممكن للتوجه منه الى قبرص. فقال quot;لم اصدق كلمات المتصل. كان قد وصل أخي، القاصر، الى بيروت قبل نحو شهر لزيارتي وكان يحلم بتمضية اوقات ممتعة. لم اصدق كلمات المتصل بي... هل انا احلم؟.... كان صعب علي ان استوعبها.. فقبل نحو خمس عشرة سنة هربت من القصف عبر مرفأ جونيه في باخرة الى قبرص مع أهلي واختي ... فكيف لي ان اعيد المسار نفسه بعد اكثر من عقد مع أخيquot;؟

تحل ذكرى حرب تموز 2006 وسط أجواء سياسية غير مطمئنة، لكن رغم الاضطرابات والمواجهات المحلية والاقليمية يعج مطار بيروت هذا الصيف بالزوار العرب والاجانب عامة وبابنائه الذين اينما انتشروا على الارض يدركون تماما ان نكهة فصل الصيف مختلفة دائما في بلدهم. من بين الزوار من كان في لبنان خلال quot;عملية الوعد الصادقquot; ولا يتردد في زيارته، ومنهم من يزوره للمرة الاولى منذ 2006 بعد عملية الاجلاء الواسعة.

فقد شهدت الحرب نزوح أعداد كبيرة من اللبنانيين من البلدات الجنوبية الى مدن لبنانية آمنة، وفيما توجه قسم كبير من اللبنانيين الى سوريا، اجلت سفارات الدول الاجنبية والعربية رعاياها عبر سوريا، تركيا، الاردن وقبرص، ويقدر عدد الذين تم اجلاؤهم بنحو 100 الف شخص.

الهروب عبر قبرص.. أو مطار بيروت

المقر المؤقت في قبرص قبل الانتقال الى الولايات المتحدة.

قال س.ج. إن quot;الخروج من لبنان في ظل الحصار الاسرائيلي البري والجوي والبحري لم يكن بالمسألة السهلة، فبعد ساعات انتظار طويلة انتقلت في حافلة من مرفأ جونيه الى مرفأ بيروت. الامر كان طبعا أسهل بالنسبة لي كفرد، خاصة اني لم اكن احمل سوى حقيبة صغيرة وضعت بها بعض المقتنيات المهمة والقليل من الثياب وذلك لأن السفارة الاميركية كانت قد نشرت عبر وسائل الاعلام وموقعها خبر اجلاء الرعايا و طلبت اخذ اللازم فقط .

وقد أجمع لبنانيون اتصلت بهم ايلاف انهم سجلوا اسماءهم في السفارة الاميركية كما طلب منهم من اجل اجلائهم، لكنهم لم يكونوا مستعجلين على المغادرة. كثيرون منهم فضلوا الانتظار حتى آخر لحظة وكان املهم كبيرا بان تنتهي الحرب قريبا وان يستطيعوا تمضية ما تبقى من اجازتهم بين اهلهم واصدقائهم.

تقول جومانا بافكوف انها لم تسجل اسمها مباشرة، وفضلت الانتظار مع طفلتها على امل ان تستقر الاوضاع. وتضيف انه في نهاية المطاف كان عليها المغادرة، خاصة ان زوجها الاميركي كان قد بدأ يقلق عليهما. تتذكر الرحلة عبر قبرص بانها كانت شاقة جدا، فقد انتظرتا،هي وابنتها، يوما كاملا تحت الشمس بين مرفأي جونيه وبيروت قبل ان تصلا الى قبرص. وهناك انتظرتا يومين قبل ان تنتقلا عبر ايرلندا الى الولايات المتحدة. لكنها تتذكر انها لاقت معاملة مميزة من قبل المسؤولين وتتذكر الاستقبال الحار الذي لاقته لدى وصولهما الى الولايات المتحدة حيث كان الصليب الاحمر والمنظمات الدولية فضلا عن وسائل الاعلام بانتظار العائدين.

كرستين بولس تقول لـ ايلاف انها سجلت اسماء افراد عائلتها، لكنها فضلت الانتظار ايضا قبل المغادرة. وقد استقلت آخر باخرة متجهة الى قبرص بعد ان أخبرت انها الفرصة الاخيرة للمغادرة، فكانت ابنتها لا تزال طفلة، وخافت من انقطاع الحليب والدواء... فلم يكن امامها خيار سوى المغادرة.
وعن رحلتها عبر قبرص تتذكر كرستين انها كانت جيدة باستثناء فترة الانتظار الطويلة والمتعبة تحت الشمس في مرفأ جونيه. لكنها اشارت الى مساعدة قوات المارينز لها الذين حاولوا تخفيف معاناة السفر والانتظار.

الاب ميخائيل كوربن كان في لبنان عندما اندلعت الحرب. كان قد ذهب الى مطرانية الروم الأرثوذكس في طرابلس من أجل التدرج . هو المولود في بنسلفينيا لم يعش اجواء الحرب من قبل. يقول لـ إيلاف إنه شاهد لسنوات عديدة صور الحرب وسمع عنها، لكن التجربة مختلفة. هو كان قد سجل اسمه في السفارة الاميركية، لكنه لم يغادر معهم. فبقي في لبنان حتى تشرين الثاني من العام نفسه للعودة الى الولايات المتحدة عبر مطار بيروت. يتذكر الاب ميخائيل الدمار على طريق المطار... quot;هذه المرة لم تكن مشاهد مصورة، بل مشاهد من الواقعquot;. كما تحدث عن الخوف من المجهول الذي كان يحيط بالجميع، وعن صوت القصف الذي كان يسمعه لاول مرة، ويتذكر كيف كان يُحذّر من القيادة على الجسر الذي يربط بين الكوره وطرابلس، لكنه شدد quot;ان في النهاية لا احد يقف امام مشيئة الله.

بين التحدي ورفض العودة

امام السفارة الاميركية في قبرص.

وفيما كان البعض يسعى الى الخروج من لبنان بكل الوسائل هربا من القصف، كان عدد من المواطنين يسعى الى دخول الاراضي اللبنانية رغم الحرب. من بينهم سيلفي ونبيل فغالي، اللذان كانا عليهما دخول لبنان من اجل حضور زفاف نجليهما. سيلفي سبقت زوجها، فتحدت الخوف والمخاطر وغادرت الولايات المتحدة متجهة الى سوريا حيث استقلت سيارة اجرة نقلتها الى بيروت عبر طرق فرعية بعد ان قصفت الجسور التي تربط بين المدن. اما نبيل، فقد انضم الى عائلته بعد اسابيع قليلة ودخل لبنان عبر مطار بيروت مستقلا طائرة تابعة للخطوط الاردنية بعد ان سمح لها وحدها بدخول لبنان.

ل. ص. رفضت ذكر اسمها، كانت من بين الذين غادروا لبنان، لكنها عادت في عام 2008، ووجدت ان الحياة طبيعية، فاللبناني كما تقول quot;بينسى بسرعةquot;. هي لن تزور اهلها هذا العام لكنها تشير الى ان صديقتها التي عادت من لبنان منذ ايام نقلت انباء تتحدث عن مخاوف من حرب، وان الاوضاع غير مطمئنة، وتقول quot;لا سبب مباشرا وراء الحرب، لكن هناك شعور باجواء حربquot;.

ناديا بورجيلي، تقول لـ ايلاف بصوت فرح quot; أصل الى مطار بيروت الاسبوع المقبلquot;. هي كانت من بين الاوائل الذين غادروا خلال الحرب، فقد تزامن القصف مع انتهاء اجازتها وغادرت عبر الاردن. لكنها عادت وزارت البلاد مرتين منذ 2006، وتؤكد ان الرحلتين كانتا ممتعتين وتساءلت quot;في شيء مثل لبنان؟quot;. وعن سؤالها عن عودة الانباء التي تتحدث عن حرب قريبة قبيل سفرها، قالت quot;لبنان بلدنا، واهلنا هناك... سابقى لشهر ونصف في زحلة، وان شاء الله لن تقع حربquot;.

اما جو خوري، فهو استبعد العودة قريبا الى لبنان. يقول ان الهروب في عام 2006 كان صعبا جدا، هو اختار المغادرة في اول ايام الحرب ويقول quot;تعلمنا ومنذ السبعينات انه اذا بدأت الحرب لا احد يعلم متى تنتهي، فقد غادرت مع عائلتي في اسرع وقت من الاردن عبر سورياquot;. ويضيف الخيار كان صعبا، خاصة بالنسبة لنا كمواطنين اميركيين دخولنا الى دمشق كان مخاطرة، والانتظار لساعات طويلة امام المعبر في الحر ومع اطفالquot;.

بدورها تتذكر طونيا عقيلة جو، الاميركية، تلك الايام وتتذكر كيف طمأنها زوجها quot;في لبنان، هناك دائما مخرج، في حال اقفلوا المطار. نسافر عبر البحر. وفي حال حاصروا البحر نسافر برا... وبالفعل هذا ما حصلquot;. وتضيف quot;ان كل ما كان يقلقها هو حماية ولديها، وابعاد الخوف عنهما، فقد حولت تلك الايام الى مغامرةquot;.

توافق كرستين بولس على كلام جو، فهي رغم عودتها الى لبنان مرتين منذ 2006، لا تفكر بالعودة قريبا وتقول خلال الرحلتين كانت هناك اشكالات امنية، فنمضي الاجازة في المنزل. هي خرجت من لبنان منذ اكثر من عشر سنوات لكن ايام الحرب لا تزال مطبوعة في ذاكرتها. تقول:
quot;كل عام يدور الحديث عن حرب، لا اتمنى حصول حرب هذا العام، لكن لا احد يدري ما قد يحصل بين لحظة واخرى، عندما قررنا لرحلة 2006 كانت الاجواء مطمئنة وكان الحديث عن وقوع حرب مستبعدًاquot;.

آمال بغد أفضل

من على متن الباخرة التي نقلت الللبنانيين الى قبرص.

يظل لبنان في ذاكرة ابنائه الذين انتقلوا الى الولايات المتحدة حيث اشغالهم واستثماراتهم وحيث اختاروا ان يعيشوا. لكن فيما هم يتمتعون بما تقدمه الولايات المتحدة لمواطنيها، اعرب لبنانيون، تحدثت اليهم ايلاف، عن تعطشهم للامان، للنظام، والحرية والكرامة في بلدهم.

تقول كرستين بولس في لبنان نعيش بخوف، فالغد مجهول، وتضيف quot;عندما انتقلت للعيش في الولايات المتحدة كنت اسمع اصدقائي يتحدثون عن مشاريع ويخططون لرحلات سيقومون بها بعد 3 اشهر او سنة او حتى سنتين، كنت استغرب دائماquot; ففي لبنان لا يمكننا ان نخطط للمستقبل. يوافق ايضا على كلام كرستين، كارلوس شاهين الذي فضل الانتقال للعيش في الولايات المتحدة من اجل العمل والاستقرار، بعدما تزوج اهله في اجواء الحرب، وولد وتربى هو ايضا في تلك الاجواء. لكنه اعتبر ان هذا يكفي، وهو يرفض تاسيس عائلة في لبنان في ظل غياب الاستقرار وأجواء quot;المفاجآتquot; المستمرة بسبب التدخلات والمصالح الدولية.

فضلا عن الامن تمنى لبنانيون ان تعيش البلاد في ظل النظام. وتشتكي ناديا من نظام السير وعدم تطبيقه، تقول quot;الناس يقودون بشكل عشوائي، هذه اكبر مشكلة بالنسبة لي في كل مرة ازور بيروتquot;. بدوره يقول نبيل quot;يجب اعادة هيكلة الخدمات العامة في لبنان، ومفهوم النظام واحترامهquot;.

اما جو ول.ص. فشددا على مفهوم الحرية، تقول ل.ص.quot; نفتقد للحرية الحقيقية. عندما نتحدث مع شخص في موضوع سياسي، نخاف من ردة فعله. فهي ستكون بحسب انتمائه لتيار معيّنquot;. بدوره يقول جو quot;للاسف الحرية غائبة. المواطنون يخافون من التعبير عن رأيهم. هم يلحقون الشخص ولا يلحقون المبدأ. وعندما يغير القائد مواقفه فان انصاره يتبعونه حتى لو كانت تلك المواقف تتعارض مع مبادئهمquot;. ويشير الى ما يجري بشكل طبيعي في الولايات المتحدة حيث يمكن لاي شخص أو نائب ان يكون ديمقراطيا وفي حال تعارضت نظرته مع الحزب، يمكن ان ينتقل الى المعسكر الجمهوري بكل حرية.

العيش بكرامة، هذا ما تمناه احمد نصار، وهو يتذكر الاستقبال الحار الذي تلقاه من قبل الصليب الاحمر لدى خروجه من الطائرة التي اقلته الى اميركا. يقول quot;رفعوا شعارات ترحب بنا، quot;اهلا بكم مجدداquot;. هرعوا لخدمة المسنين والاطفالquot;. ويسال quot; أين يمكن ان ترى ذلك في لبنان؟ هم لم يسألونا عن حزبنا او ديننا او عمرنا. فقد رحبوا بنا كبشر وساعدونا من اجل انهاء معاملاتناquot;.

صحيح ان اللبناني quot;ينسى بسرعةquot;، ففيما عاد كثيرون الى الوطن من اجل قضاء صيف ممتع مؤمنين بمشيئة الله وبمقولة quot;ان شاء الله ما بصير شيquot; رفضت اوساط سياسية في واشنطن حاولت التحدث معها ايلاف التعليق على ذكرى الحرب او التحدث عن التهديدات التي تواجه البلاد.

و فيما كانت القذائف تنهال على البلاد، كان س.ج. قد صعد مع أخيه الى الباخرة. كان الليل قد حل، ومياه البحر تحيط بهما، ويقول لـ إيلاف quot; وفيما كان الليل قد حل قررت ان اقوم بجولة... وفي سكينة الليل سمعت فجاة ضجة وموسيقى فلحقت مصدر الصوت مستغربا.. فرأيت قاعة تعج بالناس، يضحكون ويستمتعون بدقات عازف الاورغ كما وانهم في احدى قاعات السهر في بيروت... صحيح ان اللبناني quot;ينسى بسرعةquot;!

** الصور خاصة بـ إيلاف.