صديقلمحمود يوسف أبو طير يرفع صورته

quot;كان خبر وفاته كالصاعقة في قلوبنا، لكننا تحملنا الصدمة. وفي اليوم التالي علمنا انه نجح في التوجيهي.. فكانت الصدمة اكبرquot;.

كان الفتى محمود يوسف أبو طير يتصرف كأنه يودع أهله وأصدقاءه وجيرانه وكأنه مغادر بلا عودة، حتى أنه زرع ثلاث شجرات يتظلل بها المارين بجوار منزله ويدعون له في مماته.

محمود يوسف أبو طير quot;18 عاماًquot;، شاب كغيره من الشباب الفلسطيني، حلم كما يحلم مليون ونصف المليون فلسطيني يعيشون في قطاع غزة، باليوم الذي يفك عنهم الحصار، وأمل الشاب الذي قضى غرقاً قبل يوم واحد من نتائج إمتحانات الثانوية العامة على شاطئ بحر خان يونس جنوبي قطاع غزة، أن يكمل مشواره التعليمي كباقي إخوته وأخواته، إلا أن الموج كان عالٍ عليه كما الأيام في غزة بالكاد يتحملها من يسكن تلك البقعة المحاصرة للسنة الرابعة على التوالي تخللت حرباً دمرت كل ما تبقى في الأرض إن بقي شيئا أصلاً.

يقول يوسف أبو طير، والد محمود quot;كان خبر وفاته كالصاعقة في قلوبنا، لكننا تحملنا الصدمة الأولى بفضل الله. في اليوم التالي كانت نتائج الثانوية العامة في الأراضي الفلسطينية، جاء أصدقاء محمود وزملاءه وأخبرونا أن إبننا نجح بتقدير 63%، فانهارت قواي بشكل غير مسبوق وأجهش جميع من في خيمة العزاء بالبكاء، وكأنني كنت احبس كل دموعي على رحيل إبني لحين معرفة نتيجة إمتحاناته. لقد قال محمود سوف أذبح خروف وأعزم أصدقائي عليه يوم نجاحي، لكنه توفي قبل إعلان النتيجة بيوم واحد فقطquot;.

لم يكن محمود، أول من فقدهم أبو حاتم لأولاده. وقال الوالد المكلوم quot;في سنة 1983، فقدت خمسة من أطفالي خلال 28 يوما فقط، منهم إثنان توفوا نتيجة مرض وثلاثة آخرين توفوا بشكل طبيعي(..) لكن الله عوضني بخمسة أولاد آخرين ليصبح عندي الآن سبعة أولادquot;.


أم حاتموالدة محمود

وتجلس أم حاتم وسط نساء الحارة في بلدة عبسان، إحدى قرى محافظة شرق خان يونس، جنوبي قطاع غزة، فيما يخيم الحزن الشديد داخل منزل الأسرة،، لكنها بالتأكيد لن تكون غير الأم التي فقدت أبنها ومدللها في عرض البحر الأبيض المتوسط. تقول أم حاتم بينما حبست دموعها quot;لا أحد يشعر فقدان فلذة كبده غير فاقدين فلذات أكبادهم، فهو آخر العنقود في أولادي الذين أنجبتهمquot;.

وأضافت أم حاتم لإيلاف quot;لقد زرع ثلاث شجرات قبل وفاته بأيام قليلة على مدخل منزلنا لكي يستظل بها المارة.. لقد كان يمزح كثيراً مع عواجيز الحارة ويداعبهم، فجميع الناس تحبه هنا وله أصدقاء من كافة أنحاء المناطق.. كان يطلب من جارتنا المسنة أم محمد ومني سقي الشجرات والدعاء له بعد وفاته وقراءة الفاتحة على روحه، وكأنه كان يشعر بحتمية موته خلال أيام قليلة(..) وها هو توفي بعد خمسة أيام فقطquot;.

ولا زالت أم حاتم لا تملك أن تجلس وحدها لتتذكر وحدها كلمات إبنها الأخيرة لها وتعيش مرارة فراقه، فهي حتى اللحظة يحطنها النساء من كل جانب علهن يخففن عنها موت إبنها. وقالت الأم quot;كل أسراره كانت معي، كنت بالنسبة له صديقته وأمه وأخته وكل شيء في حياته. كنت أشعر بشيء غريب تجاهه، لكنني لم أكن اعرف ما هو تحديداً. لقد كان محمود بالنسبة لنا البسمة في المنزلquot;.


تشير المسنة أم محمد quot;92 عاماًquot; بينما بكت وهي تقبل صورة الطالب المتوفي محمود، بإبهامها نحو مكان جلوسه الذي تعود عليه عصر كل يوم. تقول المسنة لإيلاف quot;كان يمزح معي كثيراً جداً، كان يقول لي لو نجحت سأوزع حلويات عليك، لكن كنت أقول له أنني سأوزع فرحة ً عليك وعلى نجاحك. كان دائماً يحب الحديث معي عن أيام زمان، لقد كان دائم السؤال عن أحوال الناس قبل هجرة الفلسطينيين سنة 1948. قلت له أزرع نخلة تستفيد منها في المستقبل بدلاً من شجر الظل، لكن لم يستمع لكلامي وأصر على زراعة شجر الظل كي يكونوا ذكرى له في آخر أيامهquot;.

وكمعظم سكان بلدة عبسان، يعمل يوسف أبو طير والد الشاب الغريق في زراعة النجيل. ويقول الرجل quot;رغم إنشغال محمود في الدراسة، إلا انه كان يساعدني بشكل كبير في زراعة وبيع النجيل. الآن بعد وفاته ستبقى ذكراه محفورة في قلبي الذي يعتصره الألم على فقدان محمودquot;.

لم يكن بكاء جيهان وأختها إيمان على رحيل أخيهم الصغير الذي لم ير نتيجة إمتحاناته للثانوية العامة، ليرجع عقارب الساعة للوراء كي يعرف في ما إذا كان أخيهم محمود قد نجح أم لا، فالروح التي يضعها الخالص في عباده لها موعد لا تستقدم ولا تستأخر، لكن الرحيل بحد ذاته بالنسبة لهاتين الفتاتين سيكون محفوراً في قلوبهن مدى حياتهن، بينما سيفتح موت محمود جراح والدته التي لم تندمل بعد على فقدان خمسة من أطفالها في أقل من شهر واحد قبل نحو 27 عاماً.