تتصاعد الأزمة العراقية تعقيدًا نتيجة عدم التوصل الى حل نهائي لتشكيل الحكومة العراقية، ولعل هذه الاشكالية لها جذورها التي مهدت لها الولايات المتحدةالاميركية في سياساتها التي اعتمدتها منذ دخولها للعراق وفتحها الآفاق واسعة أمام التدخلات الخارجية، وإعتماد مبدأ المحاصصة وتدمير البنى التحتية وغياب الخدمات العامة وشيوع الفساد المالي والإداري وعدم حماية المصالح العراقية خلافًا لكل الدعوات والشعارات التي رفعت تحت ستار نشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب وترسيخ حقوق الانسان..
ستوكهولم: يتناول الباحث والمفكر الإستراتيجي والمهتم بحقوق الانسان الدكتور حسين شعبان في هذا الحوار الذي أجرته مع quot;ايلافquot; الأزمة العراقية وأبعاد المشهد الحالي في ظل الصراع الدائر على السلطة وما ستؤول اليه الاحداث مستقبلاً. ويؤكد شعبان ان ما يطلق عليه التجربة الديمقراطية في العراق، بحاجة الى وقفة جدية، مشيرًا الى أن أميركا حققت بعض أهدافها في العراق مثل الاطاحة بالنظام السابق وحل الجيش العراقي، وتغذية النزعات الطائفية والمذهبية.
bull; تحيط بالواقع السياسي العراقي اليوم عديد التجاذبات والمتناقضات وهي بالمحصلة تخضع لتأثير المتغيرات الدولية المحيطة، كيف تنظرون الى المشهد العراقي وما آل اليه من نتائج منذ 2003 وحتى الان ؟
المشهد السياسي العراقي ما زال ملتبساً ومشوشاً وحاداً، وهو يثير قلقاً متعاظماً، وخصوصاً حال التعويم السياسي الناجم من عدم الاتفاق على تشكيل حكومة وتسمية رئيس وزراء بسبب الاختلاف حول الكتلة الأكبر وتفسيراتها، فهناك من اعتبرها القائمة التي حصلت على أكثر المقاعد، وهي القائمة العراقية برئاسة الدكتور إياد علاوي، وهناك من فسّرها الكتلة الأكبر في البرلمان، والتي قد تنجم عن اتحاد قائمتين أو أكثر، بهدف الحصول على الموقع الأول ككتلة أكبر، وإذا اتفقت قائمة دولة القانون برئاسة نوري المالكي المنتهية ولايته، وقائمة الائتلاف الوطني برئاسة السيد عمّار الحكيم، وبدور مؤثر لجماعة السيد مقتدى الصدر فستكون هي الكتلة الأكبر في البرلمان، ومقابل 91 مقعداً لعلاوي، سيكون لقائمة دولة القانون 89+ قائمة الائتلاف 70، وبهذا سيصبح العدد 159، وهي التي ستكون الكتلة الأكبر.وقد مال قرار المحكمة الاتحادية العليا الى التفسير الثاني حول الكتلة الأكبر، واعتبره الأقرب الى روح النص، ولاسيما عدم وجود مذكرات تفسيرية للأعمال التحضيرية عند إعداد الدستور.
وبغض النظر عن هذه التقديرات فحتى الآن لم يعلن عن وجود كتلة أكبر (جديدة) في البرلمان، كما أن الانقسام بين أعضاء دولة القانون والائتلاف الوطني، ناهيكم عن الاشتراطات التي يضعها كل على الآخر بشأن رئاسة الوزراء، قد تجعل الاتفاق عسيرًا على تسمية مرشح واحد، وقد يعيد الكرة الى القائمة العراقية وبدعم من كتلة التحالف الكردستاني، لكن العراقية هي الأخرى قد تفشل في تشكيل وزارة، الاّ إذا تصدّعت الكتل الأخرى وانضم فريق منها الى العراقية، وقد يحصل العكس أن تتصدع العراقية، وينضم فريق منها الى الائتلاف أو الى دولة القانون أو اليهما مشتركان في حال الاتفاق على تشكيل حكومة الوضع القائم انعكاس لأزمة دستورية وفراغ سياسي، الأمر الذي قد يؤدي الى تفقيس بيوض الارهاب ويعيد العملية السياسية الى المربّع الأول، لاسيما زيادة حدّة الاستقطاب الطائفي والاثني.
ومنذغزو العراق العام 2003 وحتى الآن لم تستعيد الدولة هيبتها ولم تصبح القوات المسلحة قادرة على حماية البلاد من التحديات الخارجية، ومن التجاوز على حدودها، ولم تتمكن من تحسين الخدمات الضرورية، لاسيما الماء والكهرباء والتعليم والصحة، الاّ على نحو محدود جداً، كما أن الأمن ما زال هشًّا ويتعرض لاختراقات خطرة بين فترة وأخرى، على الرغم من تحسنه النسبي منذ العام 2008، وما زالت الميليشيات قائمة وتثير اشكالات بين فترة وأخرى، والتقاسم الوظيفي المذهبي والاثني مازال سائدًا والفساد المالي والاداري والرشا مستشرية وموضوع الانسحاب الأميركي من العراق الذي سيبدأ في شهر آب/اغسطس القادم ما زال يثير الكثير من التداعيات، خصوصاً بانتهاء العام 2011، الأمر الذي تتحفز له القوى جميعها.
bull; بإعتباركم احد النخب الناشطة في قضايا حقوق الانسان والقانون الدولي، كيف تقيمون مسار التجربة الديمقراطية وحقوق الانسان في العراق وفاعلية السلطة القضائية ازاء مايجري وما تشير اليها الوقائع والممارسات التطبيقية وماهو المنظور المستقبلي لذلك ؟
ما يطلق عليه التجربة الديمقراطية في العراق، بحاجة الى وقفة جدية، فالانتخابات لوحدها لا تعني الديمقراطية، وكذلك اطلاق حرية التعبير وإن شهدت بعض القيود، وعلى الرغم من الاقرار بحق تشكيل الأحزاب والجمعيات، الاّ أنه لا وجود لقانون حتى الآن ينظم مثل هذا الحق، لاسيما الاعلان عن مصادر التمويل والعضوية والأهداف والوسائل وغير ذلك، الأمر الذي قاد الى فوضى دون مساءلات أو تحديد لمسؤوليات، وترك الباب مفتوحاً أحياناً لتداخلات خارجية وأجندات أجنبية.
أنا أتعامل مع الديمقراطية، كمفاهيم وحقوق وقوانين ومؤسسات وتطبيقات، تستند أولاً وقبل كل شيء إلى سيادة القانون، الذي له الكلمة الفصل، وكذلك مبدأ المساواة دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو اللغة أو اللون أو المنشأ الاجتماعي أو لأي سبب آخر، والديمقراطية ثانيا مؤسسات، وهذه ما تزال غائبة أو شكلية، والديمقراطية تعني الشفافية والمساءلة وكل تلك الأمور تتطلب وجود دولة لها هيبة تستطيع أن تفرض قانونها بالتساوي على الجميع ويكون من حقها وحدها احتكار السلاح وحق فرض العقاب على من لا يلتزم بالقانون.
الديمقراطية لا تستقيم مع الطائفية أو الاثنية أو العشائرية أو الجهوية والمناطقية، والديمقراطية جزء من منظومة شاملة تتعلق بالحداثة، وعندما أقول الحداثة، فأنا أعني المدنية والعقلانية والعلمانية مضافاً اليها الديمقراطية.
يمكنني القول ان ديمقراطية ناقصة ومبتورة هي أفضل من أية دكتاتورية، ولكن لا يمكن التشبث باسم الديمقراطية، لقبول الاحتلال أو تبريره أو تسويغ معاهدة مجحفة مثل المعاهدة العراقية- الأميركية. الديمقراطية لا تقبل بمنطق الاستتباع أو الهيمنة، وبدون الوطنية ستكون الديمقراطية مشوّهة، أما محاولة التشبث بالوطنية وجعلها نقيضاً للديمقراطية، فستقود الى الدكتاتورية والتسلط والحكم الفردي وقد عانى العراق لسنوات طويلة من ذلك.
وبخصوص حقوق الانسان فقد كان العراق من أكثر بلدان العالم انتهاكاً لها وكما وصفه المقرر الخاص فان ديرشتويل: أن أوضاعه استثنائية وبحاجة الى جهود استثنائية، حيث كان يعاني من القمع المعتق والحكم الفردي الاستبدادي ومن حروب لا مبرر لها على الاطلاق، ومن حصار دولي جائر استمر 13 عاماً، كل ذلك جعل منظومة حقوق الانسان بالكامل معرضة للهدر.
ويعتبر الغزو بحد ذاته انتهاكاً سافراً وصارخاً لكامل منظومة حقوق الانسان السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لاسيما وقد اتسمت بأعمال ارهاب منفلتة من عقالها وعمليات عنف بدون حدود، وأعمال قتل واختطاف واعتقال وتهجير ونزوح، على نحو بشع، وكان العام 2006 هو الأكثر دموية، لاسيما عمليات القتل على الهوية والتطهير الطائفي حيث ارتفع منسوبه الى حدود كبيرة، لاسيما بعد تفجير مرقدي الامام علي الهادي وحسن العسكري.
وبخصوص السلطة القضائية، فقد نص الدستور على استقلالها ومهنيتها، وهذا يعني عدم تسييسها، لكن جميع الكتل السياسية تحاول دفع القضاء للتسيس لصالحها وتعتبره مسيساً ضدها فيما اتخذ قرارات لا تتفق مع ما تريد.
وأظن أن قرارات المحاكم بشأن الاجتثاث، وتأجيل البت بخصوص عقوبات مجلس النواب ومن ثم الاضطرار الى اتخاذ قرارات كلها تعكس حالة القلق والضغوط التي يتعرض لها القضاء.
أظن باستثناء الأمور السياسية فإن القضاء العراقي كان الى حدود معينة مهنياً ومقبولاً، على الرغم من أن السلطة القضائية لم تكن مستقلة في السابق، لكنها اليوم وإن كانت مستقلة لكنها تتعرض الى الضغوط ومحاولات الاحتواء، ناهيكم عن المحاصصة أحياناً بعيداً من المهنية والكفاءة. وأعتقد أن مجزرة القضاء باقصاء نحو 250 قاضيًا، ثم إعادة النظر ببعضهم، قد عرّضت النظام القضائي الى هزّة يحاول اليوم، وهو يسعى الى تجاوزها، وأن لدينا قضاة أكفاء ومحترمون في كل الاوقات، ولا بدّ هنا من التعويل على جيل جديد يستفيد من الخبرة المتراكمة ويأخذ الاخطاء والنواقص في الاعتبار، والأمر مرهون باستقرار الاوضاع وتحوّل الصراع من صراع مسلح أو عنفي، الى صراعات سلمية مدنية حضارية، وكل ذلك سينعكس ايجابيًا على القضاء ودوره.
bull; تناقضت الاراء والتحليلات العربية والدولية بخصوص اقدام أميركا على غزو العراق ووضعت اهداف عدة منها، القضاء على الحكم الديكتاتوري، محاربة الارهاب، نزع اسلحة العراق، اشاعة الديمقراطية، امن اسرائيل، تحقيق مشروع النظام العالمي الجديد، ماهي الدوافع الحقيقية والاستراتيجية جراء الحرب وما نجم عنها ؟
الدوافع الحقيقية لغزو العراق تتلخص في بعض الاولويات، منها ما كان طارئاً ومنها ما كان إستراتيجياً كان رد فعل على أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، ومنها ما يتعلق بالإستراتيجية الأميركية، حيث كان النظام العراقي السابق مصدر قلق لها، لاسيما بعد غزو القوات العراقية للكويت العام 1990، وبعد ذلك فرض حصار دولي وقرارات من مجلس الأمن كعقوبات ضد العراق.
كانت الاستراتيجية الأميركية تقوم على الاحتواء المزدوج العراق- ايران، ثم تحوّلت الى الضغط على العراق ليسقط كالتفاحة الناضجة بالاحضان بعد عقوبات دولية وحصار شامل، لكن أحداث 11 أيلول/سبتمبر سرّعت في عملية الإطاحة بالنظام العراقي، خصوصاً وان سبق وأن هدد بقصف نصف اسرائيل، الأمر الذي يعني موضوعياً، أن ازالته خدمة لها وللاستراتيجية الأميركية للهيمنة على منابع النفط في الخليج والعراق بغض النظر عن نظامه الدكتاتوري والتأثير على كامل دول المنطقة، تحت باب نزع أسلحة الدمار الشامل، التي كان العراق قد تخلّى عنها منذ العام 1992، وعلى الرغم من مماطلاته، وكذلك مكافحة الارهاب، حيث ثبت بالدليل القاطع بعد احتلاله العراق، عدم وجود علاقة مع الارهاب الدولي وتنظيمات القاعدة، وهو ما أكدته التقارير الدولية والأميركية، بشأن سلاح الدمار الشامل والعلاقة مع الارهاب الدولي.
أما قضية الديمقراطية، وإن كانت قد طُرحت بُعيدغزو العراق والتخلص من النظام الدكتاتوري السابق، لكن الولايات المتحدة بسبب ما لاقته من فشل واحباط، أصبح همها الأساسي هو الاستقرار، وكلاهما لم تتحققا، خصوصًا بعد أن انفجر غول الطائفية وكابوس الارهاب، وما زال العراق ينزف حتى الآن وعلى الرغم مما يزيد عن سبع سنوات من ذلك.
وإذا كانت واشنطن قد حققت نجاحًا متوقعًا في الاطاحة بالنظام السابق، فإنها فشلت فشلاً ذريعًا سياسيًا بعد نجاحها العسكري، وحتى هذا الاخير تعرّض الى التراجع بسبب ما تعرّضت له الولايات المتحدة من أعمال مقاومة وممانعة لمشروعها السياسي والحربي، ومجرد قراءة أرقام الخسائرالرسمية المعلنة تتضح مدى قتامة الصورة فحتى 30 نيسان/ابريل 2010 سقط 4.378 قتيلاً أميركيًا و31770 جريحًا وخرج من الجيش بسبب اعاقة دائمة أو أسباب طبية أو نفسية 38845 عسكريًا، عدا الارقام غير الرسمية.
bull; تواصل الحكومة الأميركية تأكيدها وفي العديد من المناسبات الالتزام بسحب قواتها من العراق في الموعد المحدد، هل أنجزت أميركا اهدافها في العراق والمنطقة؟ أم ان الإنسحاب جاء لإنقاذ ما يمكن انقاذه من الانموذج الذي روجت له في منطقة الشرق الاوسط الجديد؟
حققت أميركا بعض أهدافها في العراق مثل الاطاحة بالنظام السابق وحل الجيش العراقي، وتغذية النزعات الطائفية والمذهبية، وإذكاء نار الكراهية، لكنها فشلت في تطويع العراقيين أو اجبارهم على الانصياع والخضوع، وظلّت الأهداف الأساسية غير متحققة كليًا حتى الآن، ومنها استمرار ظاهرة الارهاب، بل استفحالها، والسيطرة على النفط الذي ما زال حتى الآن محط أسئلة كبرى، لاسيما موضوع التراخيص وحصة الشركات الأميركية، وعلى الرغم من تفكيك مؤسسات الدولة العراقية وحل الجيش، لكن أمن اسرائيل يبقى مصدر اشكال، حيث لم يتحقق ما كانت تحلم به واشنطن من علاقات عراقية- اسرائيلية، ولا أظن أن أحدًا مهما بلغ من استخفاف بالارادة الشعبية يستطيع أن يقدم على ذلك، دون ردود فعل شرسة.
لقد قررت الولايات المتحدة الانسحاب من العراق لأسباب عديدة منها: الخسائر البشرية المادية التي أشرنا اليها، وثانيًا ضغط الرأي العام الأميركي والاوروبي والعالمي الذي وقف ضد غزو العراق، وندد بعدم شرعية ولا انسانية الغزو، وثالثاً الأزمة الاقتصادية والمالية الهائلة التي ضربت الولايات المتحدة والعالم أجمع في نهاية العام 2008 ولا تزال مستمرة حتى الآن، وهو ما لا تقدر واشنطن أن تتحمله الى ما لا نهاية.
وقد وضعت ضمن أولوياتها تصفية تنظيمات القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان، الأمر يتطلب نقل جنودها الى حيث مصدر النيران الاساسية في قندهار وأخواتها، خصوصًا امتداد الارهاب الى باكستان، ناهيكم عن تصعيد واشنطن ضد طهران وملفها النووي، الأمر الذي بحاجة الى إعادة نشر القوات وتغيير في الأولويات.
لكن واشنطن حسب تقديري ليس بمقدورها الانسحاب بالكامل وترك الساحة لإيران التي تعاظم نفوذها على نحو واسع، ولذلك ستحاول أن تبقى بين 30-50 الف جندي، مع عدد من القواعد العسكرية، للطوارئ ولاحتمالات مواجهة التحديات إذا ما اضطرت الى ذلك. ومع أن الاتفاقية العراقية- الأميركية تنتهي في أواخر العام 2011 ولا مجال لتمديدها، لكنني اعتقد أن اتفاقية جديدة سيتم ابرامها، لكي لا يحصل نوع من الفراغ الأمني والسياسي.
bull; ان المتابع للشأن العراقي وفي مختلف الجوانب يجد تفشيًا مريعًا للفساد الاداري والمالي وهذا بإعتراف المراقبين، الأطراف الحكومية والإعلام، يا ترى من هو المسؤول عن ذلك ؟ ومن هي السلطة التي ينبغي ان تراقب وتحاسب وتعمل على انتشال وحماية ثروة الوطن والشعب من الهدر والسرقة والرشوة والضياع تحت مشاريع وهمية وعقود لاينفذ الا جزء يسير منها، ما السبيل للحد من هذه الظاهرة الخطرة ؟
نشرت منظمة الشفافية العالمية تقارير مثيرة في السنوات الأخيرة بخصوص الفساد المالي والاداري، الذي تفشى في العراق على نحو مريع حيث يعتبر العراق اليوم (حسب آخر تقرير، ثالث بلد في العالم من حيث الفساد). ولعل القوات الأميركية المحتلة هي المسؤولة الأولى، فالعراق ما زال حالياً تحت الاحتلال، على الرغم من الصخب العالي والرصانة الكثيفة حول استعادة السيادة منذ العام 2004، وبهذا المعنى فإن اتفاقيات جنيف للعام 1949 وملحقيها، إضافة الى قواعد القانون الدولي هي التي تحكم علاقة الاقليم المحتل بالقوى المحتلة.
وقد ساهمت القوات المحتلة منذ البداية في تبديد المال العام ونهب الثروة العراقية، خصوصاً في فترة حكم بول بريمر الحاكم المدني الأميركي للعراق، الذي أسس مجلس الحكم الانتقالي، وحسب أعضاء في مجلس الحكم الانتقالي بعد انتهاء صلاحياته، صرحوا أن بريمر صرف خلال فترة حكمه 8.800 (ثمان مليارات وثمانمائة مليون دولار) دون سجلات أو أوجه صرف معروفة، لدرجة أنه وزّع على ما يسمى منظمات المجتمع المدني 780 مليون دولار خلال فترى 11 شهرًا. وخلال الحكومة الاولى (د.أياد علاوي) والحكومة الثانية (د.ابراهيم الجعفري) صرف ما يقدر بـ 20 مليار دولار دون مساءلات وشفافية كافيتين.
وحاليًا حسب مفوضية النزاهة في العراق كان هناك أكثر من 1000 قضية فساد كبرى، شملت نحو 93 من الموظفين الكبار، بما فيهم 15 وزيراً، ووكلاء وزراء ومدراء عامين ومستشارين وهكذا، إضافة الى أن الفساد شمل تزوير الشهادات الى درجة خطرة.
إذا كانت القوات المحتلة حسب القانون الدولي هي المسؤولة الاولى، فإن ذلك لا يعفي الحكومة العراقية من مسؤوليتها، بما فيها القوى السياسية المشاركة فيها، وأظن أن المحاصصة والتقاسم المذهبي والاثني حال دون مساءلة، بسبب التمترس والتخندق، وفشل مجلس النواب لمرات عديدة من المساءلة مسؤولين بسبب الانحيازات المسبقة، وافتضح أمر الكثيرين من الذين انخرطوا وتورطوا في اعمال النهب والسرقة والتزوير والحصول على العمولات، وعلى الرغم من كل عمليات النهب والعقود غير النزيهة، فما زال البلد بحاجة الى كهرباء وماء وصحة وتعليم وعمل، وتبلغ نسبة البطالة حسب احصاءات الأمم المتحدة أكثر من 50%، وعلى الرغم من تحسن الأجور والرواتب، لكن غلاء الأسعار حال دون تحسن الأوضاع المعاشية، الا على نحو محدود ونسبي، في حين امتلأ البلد بظاهرة القطط السمان من أصحاب الثروة والجاه الجدد!
bull; ماهي الدوافع الحقيقية وراء استبدال الدور الدبلوماسي الأميركي للسياسة الخارجية من اسلوب استخدام العنف والقوة وشهوة الحرب المندفعة تحت سطوة الاحقاد الراديكالية الدينية ودعاة اليمين المتشدد نحو تزيين الوجه الأميركي بدعوات الحوار والانسحاب والتسامح وعقد الاتفاقيات الامنية في عهد الديمقراطيين ؟
اعتقد أن الرئيس الأميركي باراك أوباما أدرك أن معضلة العراق هي مقتل الجمهوريين، ولذلك رفع شعارًا انتخابيًا عامًا بالدعوة للتغيير باسم الديمقراطيين مركّزًا على القضايا الداخلية، ولا سيما الصحة والضمان الاجتماعي وغيرها، لكنه في الوقت نفسه وضع مسألة الانسحاب على بساط البحث بعد أن وصلت سياسة الولايات المتحدة في العراق الى طريق مسدود.
كما أدرك أوباما أن سياسية مكافحة الارهاب وإن استمر عليها لكنه عدّل صيغتها مشجعاً على ما سميّ بالحوار بين الأديان والثقافات والحضارات، مركزاً على حل القضية الفلسطينية، بمشروع الدولتين، رغم أنه واجه تحدياً عشية توليه إدارة البيت الأبيض، حين شنت اسرائيل حرباً مفتوحة على غزة أواخر العام 2008 ومطلع العام 2009، وخلال العام ونيّف الماضية بددت اسرائيل كل ما كان يتطلع اليه أوباما بشأن quot;تسويةquot; سلمية للقضية الفلسطينية، زادها تدهور سمعة اسرائيل، رغم استمرار صلفها وعربدتها، لاسيما بعد صدور تقرير غولدستون وتقرير بوستروم حول الاتجار بالأعضاء البشرية، وأخيراً فضيحة الهجوم على قافلة الحرية التي نقلت البضائع والسلع والمواد الضرورية الى غزة ومقتل 9 (تسعة) من الناشطين الاتراك وجرح عشرات وكذلك منع سفينة راشيل كوري من الوصول لشواطيء غزة لتقديم المساعدات الانسانية.
الفشل الأميركي لا يعني تخلياً عن السياسة العدوانية أو محاولات فرض الهيمنة والاستتباع، أو العزوف عن أساليب العنف واستخدام القوة، واللجوء الى الحلول، السلمية بديلاً، لكن الولايات المتحدة أخذت بعد ورطتها في العراق وافغانستان وانحسار نفوذها وتدهور سمعتها، فضلاً عن ذلك فشل مشاريع الشرق الاوسط الكبير ثم الشرق الاوسط الجديد، وعزلة اسرائيل حالياً الى الظهور بمظهر جديد حاول أوباما التعبير عنه ببراعة بدقة محامي ورشاقة قلم اعلامي، لكن الوقائع جاءت لتكذّب ما كان قد دعا اليه، وأخذ العالم العربي ينظر اليه والى الولايات المتحدة بالشك والريبة، متوقفاً عند خطابه في جامعة القاهرة (حزيران /يونيو 2009)، الذي كان واعدًا، لكنه اعتبر نفسه واهمًا، فأوباما لم يكن سوى امتداد لسياسة جورج دبليو بوش، ولم يتغير أي شيء بارز يُذكر، سواءً كان الحكام في البيت الأبيض من الجمهوريين أو من الديمقراطيين.
bull; بعد تغيير النظام السابق ظهرت دعوات واجراءات عديدة نحو اشاعة مفهوم المجتمع المدني وفعلا تم استحداث المئات من منظمات ومراكز وجمعيات مختلفة الا ان دورها لم يكن فاعلاً ومؤثرًا في مستوى الشراكة او الرقابة ومتابعة ماينجز على الصعيدين المهني والانساني، ماهي المعوقات وكيفية تجاوزها نحو ترسيخ اسس حقيقية للمجتمع المدني ؟
ما زال مفهوم المجتمع المدني ملتبسًا لدى النخب الفكرية والسياسية والثقافية، الحاكمة وغير الحاكمة، فالبعض ينظر اليه وسيلة للاسترزاق، خصوصًا بعد المغريات التي قدمها بول بريمر والعديد من المؤسسات الأميركية والدولية، والبعض الآخر ينظر اليه بارتياب ويعتبره امتدادًا للاحزاب والقوى السياسية وللجماعات المذهبية والطائفية، وهو باختصار وجه آخر للسياسة.
أما في الواقع فإن العراق عانى منذ سنوات طويلة من الهيمنة على المجتمع المدني ومن سعى لترويضه وتدجينه، وجعله أحد أصوات السلطة الحاكمة، أي ابتلاعه وهضمه وجعله يتصرف بما يُملى عليها، وهكذا كانت النقابات والاتحادات والجمعيات في ظل النظام الاستبدادي.
وبعد الاحتلال انفتحت ثغرات كبيرة، حاولت بعض مؤسسات المجتمع المدني النفاذ منها، لكن عدم وجود خبرة وتجربة، ناهيكم أن معظم العاملين جاءوا من الوسط السياسي دون تأهيل، وبعضهم كان جزءًا من امتداد للسلطة أو للجماعات المذهبية، وبسبب ما لحق به من فساد وسوء ادارة وبعض المغريات المالية، أحيط المجتمع المدني بنوع من الشبهة، كما أن المنظمات المدنية الحقيقية، كانت ضعيفة وغير مؤهلة، وليس لديها تمويل يُذكر أو أن بعضها رفض التمويل الخارجي لكي لا تختلط الأوراق.
إن دور المجتمع المدني أصبح محط تساؤل من الجميع خصوصاً لحداثة التجربة ولجدّة استخدام المصطلح، ولكن مع مرور الايام برزت منظمات مدنية تدافع عن مصالح أعضائها بمهنية وموضوعية وحيدة ونزاهة، وقامت بعدد من الفعاليات والانشطة، بينها منظمات حقوقية، لاسيما لمراقبة ورصد الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان ورفع تقارير دولية بهذا الشأن، كما حصل في سجن أبو غريب والجادرية ومطار المثنى والعديد من السجون السرية، وقام بعضها بتوثيق عمليات القتل والخطف والاعتقال والتعذيب وهدر الحقوق كاملة.
اعتقد ان على منظمات المجتمع المدني إذا أرادت أن تكون فاعلة ومؤثرة، أن تضع مسافة بينها وبين الانخراط في العمل السياسي والحزبي، وأن تكون بعيدة من الدخول في حلبة الصراع الايديولوجي، وأن تضع مسافة أيضًا بينها وبين السلطة من جهة، ومن جهة أخرى، بينها وبين المعارضة، لكي لا يشوب سمعتها ما يؤثر على صدقيتها، وأن تحذر وتتحاشى التعامل مع جهات خارجية مشبوهة، في ما يتعلق بأجندتها الداخلية.
والاّ كيف يمكن الحديث عن ديمقراطية دون وجود مجتمع مدني أحد رافعات الديمقراطية الحقيقية، ولا بدّ لمنظمات المجتمع المدني أن تتحول الى قوة شراكة وقوة اقتراح وليس قوة اعتراض أو احتجاج، بحيث تقدم مشاريع قوانين وأنظمة، وتكون مكملاً في خطط التنمية للدولة ككل، مهما كانت ملاحظاتها وتحفظاتها، فدورها الرقابي والرصدي والتعبوي والتنموي يبقى مطلوباً.
bull;ان عملية التنمية الاساسية تستند الى الثروة البشرية والعراق فقد الكثير من ابنائه لاسيما العقول المبدعة التي هاجرت الى دول الجوار او الدول الغربية وهم يشكلون اليوم نسبة كبيرة من الكفاءات التي خسرها الوطن، ما الاجراءات الصحيحة التي تعمل على اعادة هذه الطاقات او استثمارها لخدمة العراق ؟
لا يمكن عودة الكفاءات والعقول والأدمغة المبدعة، المهاجرة دون توفير ظروف مادية ومعنوية مناسبة، وأولاً وقبل كل شيء استعادة هيبة الدولة وبسط قوانينها وثانياً أوضاع أمنية سليمة وثالثاً حريات عامة وحريات للبحث العلمي والاكاديمي بعيدًا من الطائفية والاثنية ونظام المحاصصات، ورابعاً انهاء جميع المظاهر المسلحة والميليشيات، وخامسًا وضع حد لظاهرة الفساد الاداري والمالي والبيروقراطية المستشرية، وسادسًا أجواء اجتماعية ومالية طبيعية، ولاسيما تقديم بعض التسهيلات المتعلقة بالسكن والمكافآت وغيرها، وسابعًا توفير بيئة بحثية، من أجهزة ومختبرات ومكتبات وحوافز وغيرها تساعد على ذلك. وبالطبع قبل كل شيء استعادة استقلال البلاد وسيادته على ترابه وثرواته بعيدًا من الاحتلال أو التداخل الاجنبي، او الاستقواء بالخارج.
التعليقات