اصطدمت أحلام الكثير من العراقيين العائدين إلى وطنهم بعد قضاء سنوات طويلة في بلاد الغربة بالواقع المرير الذي تعيشه بلادهم، بسبب الإجراءات البيروقراطية وهيمنة الفقر وندرة فرص العمل والروتين في المؤسسات الحكومية والخاصة.
عراقية تحتضن ابنها العائد إلى وطنه |
بغداد: عاد سعد الجبوري إلى بغداد بعد غربة دامت ثلاثين عامًا، لكنه لم يستطع الصمود لأكثر من ثلاثة أسابيع في بلده، حيث حزم أمتعته عائدًا إلى السويد من جديد.
ورغم احتفاء الأهل والأصدقاء والمعارف به، إلا أنه بدا غير قادر على الاندماج مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية الجديدة. لعل أول ما أثار استياء الجبوري، كما جاء على لسانه، الروتين الإداري في الدوائر والجهات المعنية التي راجعها، بينها دوائر الهجرة والعقار، إضافة إلى الدوائر المعنية بعودته إلى الوظيفة أو احتساب الخدمة التقاعدية له.
الجبوري كان مدرّساً للتاريخ في الكرادة (أحد أحياء بغداد)، واضطر إلى مغادرة العراق في السبعينيات بعد اتهامات السلطات له بالانتماء إلى تنظيم شيوعي. ويتابع: كان حلمي الأول العودة إلى العراق، لكن الصدمة هي أنّ كل شيء قد تغير، فقط ذكرياتي هي التي ترفض أن تتغير.
ازدواجية الخطاب
ينتقد الجبوري الازدواجية بين الخطاب الحكومي الموجّه إلى المهاجرين في وسائل الإعلام والواقع الحقيقي، حيث لمس قصورًا وعدم كفاءة، وغياب أصحاب الخبرة في معالجة معاملات العودة.
وشهد العراق بعد العام 2003 هجرة الكثير من أبنائه في هجرة داخلية وخارجية هي الأكبر في تاريخ العراق الحديث، كما قتل نحو 350 عالم نووي عراقي، وأكثر من 200 أستاذ جامعي في شتى المعارف العلمية المختلفة.
العودة الى إيران يائساً
أما مصطفى حسين العائد من إيران، فقد صرّح عن يأسه من استرداد حقوقه بعدما لمس عدم اهتمام بمشكلته في مدينته التي هجّر منها في بداية الثمانينيات.
وحسين هجّر قسرًا من مدينة النجف (160 كم جنوب بغداد) في بداية الثمانينيات على اعتبار أنه quot;تبعية quot;إيرانيةquot;، حيث صودرت دار وقطعة أرض لعائلته، ويعاني الآن الروتين ونقص الأوراق الرسمية التي تسمح له الترويج لمعاملته. ويتابع: quot;لمست التعاون من قبل الموظفين المعنيين، لكنهم أيضًا أسرى الروتين والقوانين، وسأضطر إلى العودة إلى إيران، بعدما أصابني اليأس مما يحدث في العراق.
ويقول حسين: quot;إنه عايش طيلة عقود في ايران الكثير من أصحاب السلطة الآن، ومعظمهم يتبوأ اليوم مناصب حسّاسة، لكن للأسف يبحثون عن مصالحهم الخاصة فحسبquot;. ويضيف: quot;جرّبت الاتصال بعدد منهم، لكن للأسف لم يظهر منهم أي تعاونquot;.
ثمن الاستقلالية
يعترف حسين أن عدم انتمائه إلى جهة سياسية معينة في الماضي في إيران، وبقائه مستقلاً في أفكاره وتوجهاته، جعل منه شخصًا غير مرغوب فيه من قبل أصحاب المسؤولية الآن، والذين عايشوه في إيران، ويعرف إمكاناتهم المادية البسيطة وقتها، إضافة إلى مستوياتهم العلمية أيضا قياساً إلى وضعهم الحالي في العراق.
يلقي كلام حسين بعض الضوء على الأسباب وراء رفض نحو خمسين ألف عراقي هاجروا إلى إيران في زمن النظام السابق، بحسب ما كشفت عنه وزارة الهجرة والمهجرين العراقية العام 2011.
ورفض هؤلاء العودة، رغم أنهم يقيمون حالياً داخل مخيمات أزنة وجهرم، بسبب فشل الجهات المعنية في تأمين مناطق سكن لهم، ما قد يضطرهم إلى البحث عن منازل للإيجار في ظل ارتفاع حاد في أسعار الإيجارات.
الصبر والوقت الضائع
المنوال عينه يحدث مع الدكتور خالد الأسدي الحاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من روسيا. رجع الأسدي إلى العراق قبل نحو عام، على أمل أن يُعيَّن في إحدى الجامعات، لكن تقديم طلبه بات من دون جدوى، حيت أخبره مسؤول في التعليم العالي أن الأمر يتطلب وقتًا طويلاً في ظل عدم توافر quot;ملاكاتquot; في الوقت الحاضر. ويتهيأ الأسدي للعودة إلى روسيا بعدما قضى نحو عامين في بلده العراق.
والأسدي كان قد غادر العراق في بداية التسعينيات، بسبب المضايقات التي كان يتعرّض لها من قبل النظام، على حد قوله.
من جهته، حلم سعيد اللامي، الذي درس الفيزياء في بولونيا، بتطبيق قرار مجلس الوزراء 144، الذي ينص على وجوب تعيين العائدين في وزارات الدولة. ويتابع: quot;ما زالت quot;إضبارةquot; العودة تنتظر الحسم في رئاسة الوزراء، كما أخبره الموظفون المعنيون.
وتابع: quot;دبّ اليأسفي نفسي حين أخبرت أن شهادتي تحتاج صحة صدور إن صحّ التعبير. ومضى قائلاً: quot;كما أخبرني أحدهم أن الشهادة هذه ربما لن تنفع شيئًا لأنها صادرة من جامعة غير معترف بها في العراق. لكن اللامي يؤكد أنه تخرج من جامعة معروفة، يتخرج منها سنويًا مئات من الكوادر الطبية والهندسية والكفاءات العلمية الأخرى.
الوساطة والرشوة
يقول اللامي إنه يعرف أكثر من عشرين شخصًا يروّجون لمعاملات العودة إلى الوظيفة بعدما عادوا من المهجر. ويتابع: quot;تلعب الوساطة والرشوة دورًا كبيرًا في إنجاز المعاملةquot;. ويتابع: quot;اقترح عليّ أحد المعارف دفع مبلغ يعادل الثلاثة آلاف دولار بغية إكمال إجراءات العودة إلى الوظيفة والحصول على الحقوق كاملةquot;.
ربما يقرر اللامي، على حد قوله، بيع عقار يملكه في بغداد، والعودة بصفة نهائية إلى المهجر، لاسيما وأنه لم يتصل بمعارف أو أقارب له في بغداد، حيث تفرّق الأقارب والمعارف في أماكن متباعدة، مما اضطره إلى السكن في فندق في وسط بغداد، وهذا ما أضاف أعباءً إضافية لا يستطيع تحمّلها.
ويتابع: quot;قضيت بعض الوقت عند أصدقاء لي، لكنني لا أستطيع البقاء عندهم دائمًا. ويبدو الحزن واليأس في قلب اللامي، الذي قال بألم: quot;كيف يمكن للمرء أن يعود إلى بلده، ويسكن في فندق؟!quot;.
سجل رحيم العكيلي اسمه كمهجّر عائد في دائرة الهحرة، وكذلك في لجنة المادة 140 التابعة لمجلس الوزراء، إلا أنه لم يحصل على شيء إلى الآن.
ويصف بهاء حسين، الدكتور في الفنون التشكيلية معاناته كالآتي: quot;راجعت دائرة الكفاءات العام 2010، بعدما أكملت إجراءات بطاقة السكن والبطاقة التموينية، ثم توجّب عليّ معادلة شهادتي، حيث يستغرق ذلك أشهرًا عدة، وإلى الآن لم أستطع أن أتمتع بأي من الامتيازات التي وُعِدنا بها، رغم المدة الزمنية التي قاربت السنتينquot;.
ويتابع: quot;أهم العوائق التي يشعر بها العائد إلى العراق، الإجراءات القانونية والإدارية المعقدة وغيرها، والمخاطبات الروتينية التي لم تنته إلى الآنquot;.
وكان النظام العراقي السابق عمل وقتها على تشجيع أصحاب الكفاءات على العودة، فأصدر القانون 154 لعام 1975، حيث مُنح العائدون بموجبه سيارة وقطعة أرض وتسهيلات أخرى، إضافة إلى تعيين مباشر في المؤسسات والجامعات العراقية.
وهاجر من العراق الكثير من أبنائه منذ العام 2003، كما شهدت البلاد هجرات ضخمة منذ السبعينيات، واشتدت وتيرتها في بداية الثمانينيات، حين اندلعت الحروب وفرض حصار اقتصادي على العراق استمر سنوات عدة،أفرغ العراق من علمائه وكفاءاته العلمية. وقدر عدد الكفاءات العراقية في الأردن، بحسب تخمينات في العام 2010، بنحو 34 ألف شخص من حملة الماجستير والدكتوراه.
العودة النهائية
لكن المهندس المعماري، كمال الزبيدي، يقول إن قرار عودته إلى العراق نهائي، لأن ذلك يوفر له راحة نفسية وروحية. ويتابع: quot;أسكن منطقة هي محافظة الديوانية (193 كلم جنوب بغداد)، حيث التقاليد والعادات العائلية والعشائرية، فقد استقبلني الجميع بالحفاوة التي أستحقهاquot;.
ويمضي قائلا: quot;ما زلت منشغلاً بإكمال معاملاتي والحصول على وظيفةquot;. ويؤكد أن الموظفين المعنيين يتجاوبون معنا، لكن إجراءات قانونية وإدارية طويلة تنتظرنا، وربما يستغرق الأمر سنوات.
ويشير الزبيدي، الذي بدا متفائلاً أكثر من غيره، أن بعض العائدين يصوّر لبعض العراقيين، أنه آتٍمن quot;الجنةquot;، وأنه ترك وظيفته في الغربة، التي يحصل منها على مدخول شهري بآلاف الدولارات، لكن الحقيقة غير ذلك، فالكثير من العائدين كانوا عاطلين عن العمل في بلدان المهجر، ويعودون اليوم بسبب الامتيازات وارتفاع معدلات الدخل والرواتب.
البحث عن عمل
أما ليث الشمري (ماجستير هندسة مدنية) فقد مضى على عودته من النروج نحو السنتين، من دون أن ينجح في الحصول على عمل. يتابع الشمري: quot;مازلت انتظر، وربما أضطر إلى العودة إلى المهجر، إذا ما استمر الوضع الحالي على ما هو عليه الآنquot;.
وفي محاولة جدية لحثّ العراقيين المهجرين على العودة، استحدثت وزارة الهجرة العراقية دائرة قسم الكفاءات لاستقبال الشخصيات العلمية العائدة، وفق آليات منسقة ما بين وزارة الهجرة المعنية بهذه الشريحة والدوائر الأخرى.
كما استحدثت الوزارة منذ العام 2009 ثلاثة مكاتب في دول الجوار هي (سوريا، والأردن، وإيران) بالتنسيق مع وزارة الخارجية العراقية لمتابعة العوائل المهاجرة والمهجرة وتسهيل عملية العودة. ويطالب الكثير من المغتربين بضمان الحصول على وظائف وفرص عمل، كخطوة أولى نحو الاستقرار في البلد الأمّ.
التعليقات