في خضم أمة اليورو الطاحنة التي تهدد الاتحاد الأوروبي في أساسه، يحار المرء إزاء ما إن كان بوسع القَتاعات laquo;الحديديةraquo; التي تميز بها عهد مارغريت ثاتشر أن يخط قصة مختلفة.. ليس في بريطانيا وحسب، وإنما في أوروبا والعالم أيضًا.


مارغريت ثاتشر
ديفيد كاميرون

صلاح أحمد: لا شك في أن رئيسة الوزراء السابقة مارغريت ثاتشر دخلت من أوسع أبواب التاريخ باعتبار أن عهدها وقيادتها كانا بين الأبرز في تاريخ بريطانيا السياسي بكامله. وربما كان جزءًا من هذا هو أن سنوات حكمها شهدت متناقضات عديدة، وفقًا لمجلة laquo;تايمraquo; الأميركية.

فقد كانت رائحة البارود المنبعثة من جزر الفوكلاندز (الأولى لقوة كبرى منذ فيتنام) نصرًا أقرب الى النشاز في عالم يبتعد شيئا فشيئًا عن الحروب على مستوى الدول. وعلى المستوى الداخلي داوت laquo;السيدة الحديديةraquo; بريطانيا من جراحها الاقتصادية بعد سنوات قحط عمّالية تكللت بما يسمى بـlaquo;شتاء السخطraquo;، الذي أثبتت فيه النقابات قدرتها على شلّ البلاد. وكان بين أبرز إنجازاتها قصّ أجنحة هذه النقابات بشكل لا سابق له. لكن العافية الاقتصادية نفسها كانت نذيرًا بالخسائر الفادحة بعدد الربح السريع.

والآن، وفي العام 2011 وفي وقت تبدو فيه المملكة المتحدة laquo;غير متحدةraquo;، يبدو أن البلاد تعود إلى نوع العسر الاقتصادي الذي كان. فديفيد كامرون، رئيس الوزراء المحافظ أيضًا، يخوض معاركه المريرة من جهته ضد نقابات العمال، وسياسته التقشفية الصارمة من أجل تخفيض ديون الدولة، الذي سيصل ذروته إلى 78 % من إجمالي الناتج القومي بحلول العام 2015 تبعًا للخبراء، سيجمّد الرواتب في أفضل الحالات ويضيف آلافًا جديدة إلى العاطلين الجدد.. إلى آخر القائمة.

وفوق هذا فسيوسع من الهوة الواسعة أصلاً بين الأثرياء والفقراء. وما أعمال الشغب التي اجتاحت البلاد خلال صيف العام الحالي إلا نذير بما يمكن أن يأتي. في غضون ذلك ستزداد تلك الهوة بين الأثرياء والفقراء مساحة وعمقًا. وهكذا يصح القول: ما أشبه بريطانيا اليوم ببريطانيا البارحة، أو بريطانيا الثمانينات على وجه الدقة.

وربما كان هذا هو السبب الذي دفع بالعديد من البريطانيين الى تأويل مغامرة ديفيد كامرون العسكرية الأخيرة في ليبيا باعتبارها مجرد سعي منه إلى رفع رصيده السياسي (على غرار ما جنته ثاتشر من الفوكلاندز). لكن كامرون ليس ثاتشر. وعلى الأقل فهو ليس في laquo;أيديولوجيةraquo; السيدة الحديدية. ثم أضف إلى هذا أنها تولت الحكم في زمن مختلف أتاح لها فرض إرادتها، بغضّ النظر عن محاسنها ومساوئها.. مثل تحريرها السوق بدون أن تقع فريسة لها.

كان رأي ثاتشر - على الأقل تبعًا للفيلم الأخير عن سنوات حكمها - هو أن بريطانيا ليست مستعدة للعملة الأوروبية الموحدة. وربما كان البريطانيون (الرافضون أبدًا أي روابط عضوية بين بلادهم وأوروبا) يمتلئون بالشماتة الآن، وهم يرون القارة تغوص في مستنقع اليورو ويهنئنون أنفسهم على تمسكهم بالجنيه الاسترليني.

بل إن الأمر وصل الآن إلى حد أن جلّ هؤلاء يطالبون، ليس باستعادة القرار من بروكسل وحسب، بل بالخروج دفعة واحدة من الاتحاد الأوروبي نفسه. وبينما وعد كامرون بالنظر في الرغبة الأولى، فهو يماطل في ما يتعلق باستفتاء شعبي عام على الثانية.

ويقول مراقبون إن مراجعة تركيبة منطقة اليورو في إطار المساعي المحمومة إلى إنقاذ اليورو من جانب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل (أو ما يسمّى الآن بـlaquo;ميركوزيraquo;) سيغيّر طبيعة الاتحاد الأوروبي بكاملها، وبالتالي وضع بريطانيا داخله.

لكن تردد كامرون في طرح المسألة في استفتاء عام يلقي بضوء ساطع على حقيقة لا تمسّ بريطانيا وحدها، وإنما أوروبا والولايات المتحدة، والشرق الأوسط أيضًا، خاصة بالنظر إلى العولمة التي نعيشها الآن. ففي المنطقة العربية التي تشهد تغيّرات تاريخية، ما عاد الناس يثقون في قدرة حكوماتهم على تحسين أوضاعهم الاقتصادية، وهذا نفسه ينطبق حتى على الديمقراطيات الراسخة في الغرب.

ويدًا على يد مع منافع العولمة - ومنافع اليورو أيضًا - تأتي تحديات هائلة تتعلق بضرورة إعادة تشكيل الأنظمة السياسية والمؤسسات، بحيث تتواءم مع دنيا جديدة، تربط أجزاءها كل الجسور التي ما كانت قائمة من قبل. وهذه هي تحديات لم يتم بعد التعرّف بشكل دقيق إلى ملامحها، دعك عن إيجاد الحلول المناسبة لها.

وهذا هو ما يلقي بذلك الحنين إلى ثاتشر وأسلوبها. وصحيح أن العديد من الناس لم يتفقوا، ولا يتفقون، مع قناعاتها وسياساتها الحديدية التي أكسبتها لقبها الشهير. لكنهم على الأقل يتفقون على أن تلك القناعات والسياسات كانت راسخة وتتميز بالقدرة على التغيير.. على عكس الحال الذي نراه وسط الحكام اليوم. وعليه فربما كانت قصة اليورو والاتحاد الأوروبي نفسها مختلفة تمامًا الآن.