مبنى سكني في مدينةسرت فجرته قنابل حلف شمالي الأطلسي

حصل حلف شمال الأطلسي على تأييد المجتمع الليبي، بعد تمكّنه من إسقاط نظام القذافي، إلا أن هذا النجاح ترافق مع مقتل مدنيين. وأكد استنتاج أن العشرات قُتلوا على يد حلف شمال الأطلسي، الذي يرفض إجراء أي تحقيق في الأمر.


بيروت: تمكن حلف الشمال الأطلسي (الناتو) من الحصول على تأييد وإشادة المجتمع اللليبي والدولي، من خلال حملته الجوية، التي دامت سبعة أشهر، ونجحت في صدّ قوات العقيد الليبي الراحل معمّر القذافي، وإسقاط نظامه الحاكم. لكن هذا النجاح ترافق مع أعداد من الوفيات في صفوف المدنيين، يرفض الناتو الإعتراف بها أو حتى السماح بإجراء تحقيق لتوضيح ملابساتها.

وفقاً لتصريحات حلف شمال الاطلسي، منذ انتهاء حملته الجوية في ليبيا يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول، فإن عمليات التحالف العسكرية، بقيادة الولايات المتحدة، لا تشوبها شائبة تقريباً، وهي حرب جوية نموذجية، اعتمدت على التكنولوجيا المتطورة، والتخطيط الدقيق وضبط النفس لحماية المدنيين من قوات العقيد القذافي.

وقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، أندرس فوغ راسموسن، في تشرين الثاني/ نوفمبر: quot;تم تنفيذ هذه العملية بعناية فائقة، من دون سقوط ضحايا من المدنيينquot;.

لكن صحيفة الـ quot;نيويورك تايمزquot; رفضت هذه المزاعم، وأرسلت فريقاً من المراسلين إلى ليبيا في تحقيق استقصائي، شمل دراسة المواقع التي قصفتها طائرات الناتو، بما في ذلك مقابلات مع الأطباء والناجين والشهود، وجمع مخلفات الذخائر، والتقارير الطبية وشهادات الوفاة والصور.

توصلت الصحيفة إلى استنتاج مدعم بأدلة وإثباتات، مفاده أن العشرات من المدنيين في ليبيا، قتلوا على يد حلف شمال الأطلسي في هجمات مختلفة كثيرة، بما في ذلك ما لا يقلّ عن 29 امرأة وطفل، معظمهم كانوا نائمين في منازلهم، عندما استهدفتهم قذائف الناتو.

من خلال التقرير، الذي وضعته الـ quot;نيويورك تامزquot;، أشارت الأرقام إلى أن 40 مدنياً على الأقل، وربما أكثر من 70، قتلوا في هجمات حلف شمال الاطلسي. وفي حين أن هذه الحصيلة لا تعتبر مرتفعة، مقارنة بغيرها من الصراعات، التي شنتها القوى الغربية، فإنها لا تزال تعتبر وفيات quot;مجهولةquot;، وتحتاج مزيدًا من البحث والتحقيق.

بعد أسبوعين من تقديم مذكرة من 27 صفحة، تتضمن التفاصيل الموسعة التي جمعتها الصحيفة، ومن ضمنها تسع هجمات منفصلة شنتها طائرات القوات المتحالفة، وأدت إلى سقوط ضحايا من المدنيين، قررت منظمة حلف شمال الأطلسي تعديل موقفها، بعد رفضها المتكرر.

وقالت أوانا لونغيسكو، المتحدثة باسم مقر حلف شمال الأطلسي في بروكسل: quot;بالنظر إلى ما تمكنت الصحيفة من جمعه من معلومات على أرض الواقع، يبدو أن هناك عددًا من المدنيين الأبرياء، الذين قتلوا أو أصيبوا بجروح، على الرغم من تدابير العناية والدقة التي اتخذناهاquot;، مضيفة: quot;إننا نأسف بشدة لأي خسائر في الأرواحquot;.

وأضافت أن حلف شمال الأطلسي كان على اتصال منتظم مع الحكومة الليبية الجديدة quot;وإننا على استعداد للعمل مع السلطات الليبية لفعل ما ترى أنه ضروري ولازمquot;.

لكن حلف شمال الأطلسي وضع مسؤولية التحقيق في هذه المسألة بيد السلطات الليبية المؤقتة، التي استلمت الحكم، بفضل دعم الناتو وحملته الجوية.وحتى الآن، أعرب الزعماء الليبيون عن اعتقادهم بأن لا مصلحة في دراسة أخطاء الناتو.

الفشل في تقويم شامل لعدد القتلى المدنيين يقلل من احتمالات أن قوات التحالف، التي تعتمد اعتماداً كبيراً أكثر من أي وقت مضى على القوة الجوية بدلاً من مخاطرة القوات البرية في الصراعات الخارجية، ستقوم بتقويم تجربتها الليبية للحدّ من وفيات في أماكن أخرى.

وقد أمر قادة التحالف بتقديم تقرير عن الدروس المستفادة إلى مقر حلف شمال الأطلسي في فبراير/ شباط، لكن عدم استعداد الناتو لمعرفة عدد الحوادث المميتة يثير تساؤلات حول مصداقية وشمولية هذا التقرير.

وفي ليبيا، ترك الناتو وراءه عدداً من الضحايا والجرحى من دون أية مساعدات طبية أو اجتماعية أو مالية، في بلد تسوده الفوضى والدمار نتيجة أشهر طويلة من الحرب، وما زال يحاول الوقوف مجدداً في ظل تحديات كثيرة، أبرزها سلاح الميليشيات والقبائل المتناحرة.

شملت تحقيقات الـ quot;نيويورك تايمزquot; زيارات إلى أكثر من 25 موقعاً، بما في ذلك طرابلس، وصرمان، ومزدة، وزنتان، والميجر، وأجدابيا، ومصراتة، وسرت، والبريقة وصبراتة بالقرب من بنغازي.

ووجد التحقيق حدوث أضرار كبيرة في البنى التحتية المدنية من هجمات معينة، والتي لم تكن مبررة أو واضحة. شملت هذه الهجمات مستودعاتكانت تحتوي على الطعام، ومواقع قريبة من الشركات والمنازل التي دمّرت، بما في ذلك هجوم على مخبأ ذخيرة بجوار أحد الأحياء السكنية، تسبب في انفجار ثان كبير، ونثر الرؤوس الحربية والمواد السامة ووقود الصواريخ على المنازل المجاورة.

استمر حلف الشمال الأطلسي بنكران هذه الحوادث، رافضاً إجراء تحقيق في مسألة وقوع ضحايا من المدنيين في ليبيا. ولم يتغير هذا الموقف حتى اليوم، على الرغم من أن منظمتي quot;هيومن رايتس ووتشquot; والحملة من أجل الضحايا الأبرياء في الصراع quot;سيفيكquot; التقتا سراً مع مسؤولين في حلف الناتو، بعد إجراء البحوث الميدانية المشتركة حول الأخطاء، بما في ذلك، أسماء الضحايا، وتواريخ وأماكن وفاتهم.

الأمين العام لحلف شمال الأطلسي أندرس فوغ راسمسون

وقالت منظمة quot;سيفيكquot; إن مقاومة الحلف لجعل نفسه تحت المساءلة ورفضه الاعتراف بالأخطاء هو نتيجة السياسة العامة الضعيفة.

وقال فريد إبراهامز من منظمة هيومن رايتس ووتش المعنية بحقوق الإنسان -ومقرها نيويورك: quot;من الواضح تماماً أن مدنيين قتلوا في غارات حلف شمال الاطلسيquot;.

وأضاف: quot;وفقاً لإحصائياتنا، قتل ما يصل إلى 50 مدنياً في حملة الحلف وربما أكثر. لا نزعم هجمات غير مشروعة، ناهيك عن جرائم الحرب، إنما نعتقد بأن مسؤولية التحقيق الشامل في هذه الحالات تقع على عاتق الحلف، حتى يستطيع أن يحدد أخطاءه ويصححهاquot;، وحثّ الحلف على التفكير في صرف تعويضات quot;ملائمةquot; لذوي الضحايا والجرحى والمتضررين.

وتعرّض الحلف لانتقادات حادة لوقوع خسائر بشرية بين المدنيين في ليبيا، لكن المتحدثة باسم الحلف لونغيسكو قالت إن الناتو ليست لديه أرقام لأعداد القتلى الذين ربما سقطوا في حملة القصف التي شنّها، لكنه quot;اتخذ كل الاحتياطات الممكنة لتقليل احتمال وقوع خسائر في صفوف المدنيينquot;.

وأضافت أنه من المستحيل استبعاد الخطر على المدنيين تماماً، مشيرة إلى أنه quot;في حال كانت هناك أدلة ذات مصداقية فإن على السلطات الليبية أن تتقدم للتعامل مع أية مزاعم من هذا النوع، لكن الحكومة الليبية لم تطلب من الحلف التحقيقquot;.

وحثت منظمة quot;هيومان رايتس ووتشquot; حلف شمال الأطلسي على التحقيق في مقتل المدنيين، الذين ربما يكونوا قد سقطوا خلال العملية العسكرية التي استمرت ثمانية أسابيع في ليبيا.

وقال إبراهيم دباشي مندوب ليبيا إلى الأمم المتحدة إن الحكومة الليبية المؤقتة، التي تسيطر على ليبيا منذ أن اضطر القذافي إلى الفرار من طرابلس في آب/اغسطس،اكتشفت أنأكثر من 40 ألف ليبي قتلوا خلال الصراع في البلاد. لكنه أضاف يوم الخميس إن quot;القذافي كان مسؤولاً عن سقوط هؤلاء القتلىquot;.

وتحدثت الصحيفة عن محمد الغراري، مواطن ليبي متقاعد من مدينة طرابلس، كان يسكن وعائلته وزوجات أبنائه وأطفالهم في منزل من ثلاث طبقات. وفي وقت متأخر يوم 19 يونيو/حزيران، سقطت قنبلة من طائرات حلف الناتو على منزله، وأدت إلى انهيار الجانب الأمامي منه، فتوفيت كريمة، ابنة الغراري، مع زوجها وطفليها (جومانة سنتين، وخالد 4 أشهر) تحت الأنقاض.

أدى الإنفجار أيضاً إلى مقتل نجل الغراري، الذي دفعه الإنفجار من الطبقة الثانية إلى باحة المنزل، حيث دفنته أنقاض المنزل، كما أصيب ثمانية أفراد آخرين من الأسرة، أحدهم إصابته خطرة.

في البداية، اعترف حلف شمال الاطلسي تقريبًا بارتكابه خطأً، وقال في تصريح له quot;كانت القنبلة تستهدف موقعاً لصاروخ عسكري، وليس المنزل. قد يكون هناك فشل في نظام أسلحة الناتو، وقد تسبب في عدد من الإصابات في صفوف المدنيينquot;.

لكن الحلف تراجع عن هذا التصريح بعد وقت قصير، ما دفع مديرة العمليات الميدانية لـ quot;سيفيكquot; كريستيل يونس، إلى إجراء بحث، شمل مجموعة الضحايا وموقع الإنفجار، وتوصلت إلى تقرير، سلمته إلى حلف شمال الاطلسي. لكنها تلقت استجابة باردة، إذ قال المعنيون: quot;لا توجد تقارير مؤكدة عن وقوع ضحايا في صفوف المدنيينquot;.

واعتبرت يونس أن السبب في عدم وجود تقارير مؤكدة هو أن حلف الناتو قد وضع quot;تعريفاً خاصاً به لتأكيد سقوط ضحايا، وهو أنه: quot;لا يمكن تأكيد سقوط ضحايا من المدنيين إلا بتقارير صادرة من الحلفquot;.

ووصفت يونس تعليق الناتو بـ quot;الموقف السخيفquot;، مشيرة إلى أن الحلف يبدو واضحاً في هذه المسألة quot;لا توجد نية داخل حلف شمال الاطلسي للبحث في هذه الحوادثquot;.

لا تقتصر تداعيات رفض الناتو بالتحقيق في هذه الحوادث على الأمور التقنية والتنظيمية، فأسرة محمد الغراري، التي فقدت أفرادها جراء قصف الناتو، تعاني اليوم من هذه العملية، التي أثرت على موقعها الإجتماعي. فالأسرة المؤيدة للثورة الليبية باتت عرضة للاتهامات بأنها موالية للقذافي، وهذا السبب هو الذي دفع بالناتو إلى قصف منزلها.

يقول أحد أبناء محمد الغراري إن المواطنين الليبيين يصفونهم بالموالين للقذافي منذ هجوم حلف الناتو على منزلهم quot;فإذا هاجم حلف شمال الاطلسي منزل الأسرة، يعني ذلك أن العائلة كانت متحالفة مع العقيدquot;.

وقال محمد الغراري إنه سيقبل اعتذار حلف شمال الأطلسي، مضيفاً: quot;إذا كان هذا خطأ من غرفة التحكم الخاصة بهم، فأنا لن أقول شيئاً، لأن هذا مصيرنا. لكن على حلف الناتو رفع العار عن الأسرة، ووضع الأمور في نصابهاquot;.

وأضاف الغراري: quot;حلف شمال الأطلسي يجب أن يقول الحقيقة. يجب أن يقول ما حدث، حتى يعرف الجميع أن عائلتي بريئة، وليست موالية للقذافيquot;.