عُرف العراق عبر العقود بجامعاته التي إكتسبت شهرة وسمعة طيبة بين جامعات العالم، مثل جامعات بغداد والبصرة والموصل والسليمانية. لكن بات قطاع التعليم يشهد أخيرا فوضى كبيرة، دفعت وزارة التعليم العالي العراقية الى الاعلان عن فتح نحو 15 جامعة فقط في عموم المحافظات العراقية حتى عام 2020.
تحديات عديدة تنتظر الخريجين الجدد في العراق |
يشهد العراق منذ عام 2003 ثورة في أعداد الكليات والجامعات الحكومية والأهلية وبمختلف الاختصاصات، حيث يتخرج سنويا المئات من الطلبة من دون وجود انسيابية واضحة لزجّهم في الأعمال والمهن ولذلك يؤكد الكثير من خبراء التعليم، وطلبة ومدرسون يعايشون التجربة ان هناك فوضى كبيرة في قطاع الجامعات العراقي، ينتج منه تفريخ عشرات الجامعات الحكومية والأهلية، التي بدت في بعضها دون مستوى الطموح إداريا، وعلميا، وتقنيا، وبدا البعض منها مشروعا تجاريا أكثر منه تعليميا.
خريجون عاطلون عن العمل
يرى احمد عبيد طالب الدكتوراه في علوم الحياة في جامعة كربلاء (108 كم جنوب غرب بغداد) ان اغلب شباب العراق يلجأون الى التعليم الجامعي وان افتقدوا الى الكفاءة التي تؤهلهم، بغية كسب وجاهة أكاديمية واجتماعية، في ظل غياب ميل واضح لهم للانخراط في المعامل والمدارس المهنية التي تخرج الكوادر الوسطية. ويضيف: الجميع يطمح لان يكون أستاذا جامعيا والكل يحلم بلقب الدكتوراه وان كان على حساب المستوى العلمي والحاجة.
ويتابع عبيد: الجامعات الأهلية على أنواعها، المعترف بها من قبل وزارة التعليم العالي وغير المعترف بها، تجذب الطلبة من أصحاب المعدلات الضعيفة لزجهم في اختصاصات لا يدخلها في الجامعات الحكومية سوى أصحاب المعدلات العالية.
ويضيف: ان السنوات المقبلة ستشهد درجات علمية وألقابا أكاديمية يحملها اشخاص بمستويات علمية ضعيفة، وستكون ظاهرة يندى لها الجبين. ويتابع: اعرف طلابا يدرسون الماجستير الآن في الكثير من الاختصاصات لا يعرفون كتابة جملة عربية واحدة صحيحة ويفتقدون الى فهم ابسط مسائل الرياضيات.
ولا توجد إحصائيات رسمية سنوية حكومية عن نسبة الخريجين الجامعيين العاطلين، لكن إحصائية وزارة العمل والشؤون الاجتماعية عام 2007 أشارت إلى أن نحو 65% من حملة شهادتي الدبلوم والبكالوريوس عاطلون عن العمل.
التعليم التقني
وتوضح معاينات وحوارات بين طلاب المتوسطة والثانوية في مدن مثل بغداد وكربلاء و بابل (100 كم جنوب بغداد)، ان اغلب الطلاب يرغبون في اكمال دراستهم الجامعية ويشمل ذلك حتى أصحاب المستويات الضعيفة.
وبحسب كريم حسين وهو مدرس متقاعد درس في ثانوية صفي الدين في بابل لمدة عقدين، فان إحياء التعليم التقني والتوسع في التعليم المهني ، يحتم اتباع انسيابية تنظم قبول الطلاب في مختلف الاختصاصات الصناعية والزراعية والإدارية . وبحسب كريم الذي قضى شطرا من حياته في ألمانيا (خمس سنوات) فان الدول المتقدمة تعتمد على الكادر الوسطي في تنفيذ المشاريع.
جامعات العراق العريقة
الجدير بالذكر أن العراق عرف عبر العقود الأربعة الأخيرة بجامعاته التي اكتسبت شهرة وسمعة طيبة بين جامعات العالم، مثل جامعات بغداد والبصرة والموصل والسليمانية والجامعة التكنولوجية. وخرّجت هذه الجامعات عبر السنين أجيالا من العلماء والمفكرين والمهندسين والأطباء، كان لهم دور كبير في مسيرة النهضة العلمية ، العراقية والعربية. كما كان العراق يتبع نظاما عادلا في التعيين المركزي الذي كان يراعي الحاجة العلمية والعملية للكوادر المتعلمة.
إستسهال الحصول على الشهادة
من ناحية أخرى يرى كامل فاضل وهو مدرس تاريخ لمدة ثلاثة عقود ، ان ما يحدث اليوم هو تخريب للهوية العلمية العراقية التي امتازت بالرقي والتطور وقدرتها على المنافسة .
ويضيف : في الكثير من الجامعات لاسيما الأهلية منها ثمة استسهال كبير في الحصول على الشهادة الجامعية ، فالكثير منها يمرر عبر quot;الواسطةquot; والفساد المالي والإداري والمحسوبية . ويتابع : كما ان الكثير من البعثات الدراسية الى خارج العراق تشوبها صفقات الفساد في اختيار الطلبة .
ورغم ارتفاع الأجور الدراسية في الكليات الأهلية الا أنها ما زالت المكان الذي يستقطب الطلبة ذوي المستويات الدراسية الضعيفة .
وبحسب سمير الملا وهو مفتش تربوي سابق قضى أكثر من أربعة عقود في التفتيش التربوي والرقابة المدرسية فان الجامعات الكثيرة تبتلع الكادر الوسطي ، وتُراكم اعدادا هائلة من الطلبة الذين يرفضون العمل ككادر وسطي في مجالات مهنية صناعية او زراعية بحجة امتلاكهم شهادات جامعية .
ويضيف.. العراق اليوم يحتاج الى المدارس المهنية أكثر من حاجته الى الجامعات بغية تأهيل كوادر وسطية. ويقول: إذا استمر الأمر على هذا المنوال فسنجد في كل قرية جامعة او كلية ، بينما يفتقر العراق في الوقت ذاته الى المدارس الابتدائية وتنتشر في اغلب مدنه المدارس المبنية من الطين .
ضعف المستوى الدراسي
ولعل وزارة التعليم العالي العراقية أيقنت بضرورة ألا يتجاوز العراق الطاقة الاستيعابية الممكنة للجامعات حيث اعلن وزير التعليم العالي علي الأديب عام 2011 ان الوزارة بصدد فتح نحو 15 جامعة فقط في عموم المحافظات العراقية حتى العام 2020.
و يشتكي سعيد واهب مدير مدرسة في محافظة النجف ( 160 كم جنوبي بغداد) من ضعف المستوى الدراسي للمدرسين الجدد.
ويضيف: التحق بالقطاع التعليمي مدرسون جدد من خريجي السنوات الأخيرة لا يمتلكون المستوى العلمي الذي يؤهلهم للتدريس . ويقول : المشكلة الآن ان اغلب المدرسين يرغبون في إكمال الماجستير والدكتوراه ، حيث أصبح الحصول على شهادة عليا بيد الجميع.
ويتابع: ليس في الرغبة في الحصول على شهادة عليا من غبار ، لكن القضية تتعلق في الهوس الجماعي في الحصول على الشهادة العليا من دون تخطيط أو مراعاة لفارق السن والحاجة الفعلية.
ويشير كامل حسن الذي سمح لابنه بالدراسة في جامعة أهلية حيث تخرج عام 2009 في مجال الاقتصاد لكنه ركن شهادته على الرف بعدما تعذر عليه الحصول على وظيفة الى ان هذه الجامعات مجرد وسيلة للربح المالي فقد وعدوه ان ابنه سيحصل على شهادة يمكنه عبرها إيجاد وظيفة له بسرعة لكن هذا لم يحصل.
ويبدو ان الشهادة الأكاديمية من الجامعات الأهلية بدأت تفقد بريقها بعض الشيء حتى وإنْ أعلنت الجامعة انها معترف منها من قبل الوزارة ، أو أنها في طريق الاعتراف ، ذلك ان الأعداد الهائلة من الجامعات في مدن العراق ستضع آلاف الطلاب على سكة انتظار التعيين وهو انتظار يطول بكل تأكيد.
ولأنّ الطالب حيدر حسين سئم الانتظار من العمل بعد تخرجه ، فقد قرر الذهاب الى الهند للدراسة بدلا من الانتظار، حاله حال العشرات بل المئات من الطلبة الذين قصدوا دولا في الخارج لغرض الدراسة بدلا من الانتظار.
ميول طلاب الجامعات الأهلية
تشهد مجالات مثل الطب والصيدلة وطب الأسنان إقبالا منقطع النظير بين طلاب الجامعات الأهلية رغم أنها تكلف الطالب أقساطا دراسية عالية ، لان الفرصة التي توفرها الشهادة في هذه الاختصاصات كبيرة كما ان المتخرج يمكنه العمل على حسابه الخاص أيضا، وكل ذلك جعل من تلك الجامعات مقصدا للطلاب المنحدرين من العائلات الغنية.
من جانب آخر يحذر الأستاذ في جامعة بابل نادر عبد الله من ان استغلال الحق والرغبة المشروعة في إكمال الدراسة، من قبل بعض الجامعات التي تستدرج هؤلاء على حساب الجانب العلمي.
ويضيف: لا ضير من انتشار الكليات الأهلية والكم الهائل من الجامعات الحكومية لكن يجب ان يكون ذلك وفق معايير الجودة والتقييم العلمي و الأكاديمي ووفق الجدوى الاقتصادية والعلمية والمجتمعية من ذلك . ويتابع: أستطيع القول إن بعض الجامعات الأهلية والخاصة والجامعات عبر المراسلة هي عبارة عن دكاكين غرضها الربح التجاري فحسب.
الكفاءة العلمية
وفي الوقت ذاته يؤكد طبيب الباطنية محمد جابر من ان معايشته الميدانية للأطباء حديثي التخرج من جامعات أهلية، في مرحلة التطبيق حيث عملوا الى جانبه، تجعله يعتقد أن دراسة الطلاب من ذوي المستويات العالمية الضعيفة لاختصاصات لا تتناسب مع معدلهم في الإعدادية مثل الطب ، ادى الى تخرج أطباء ليسوا في مستوى الكفاءة العلمية ولا حتى المسؤولية.
ويطالب جابر بالتدقيق في اختيار طلاب يدرسون اختصاصات دقيقة مثل الطب، لان ذلك سيؤدي إلى نتائج كارثية على المجتمع.
من جانبه يرى الطالب في جامعة الديوانية (193 كلم جنوبي بغداد) ان من أسباب تدهور التعليم في العراق هي اعتماد الكم لا النوع في التخطيط لإقامة الجامعات. ويضيف: الجامعات الأهلية هي دليل تقدم الدول وليس تخلفها اذا كان ذلك يتبع الضوابط الأكاديمية والجدوى الفعلية.
التعليقات