عراقيون يتسوقون في الكاظمية في شمال بغداد

تحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي نافذةً يستذكر العراقيون عبرها ماضيهم بذكرياته الحلوة والمرة على حد سواء، فينشرون صورًا قديمة ويدونون سيرًا فات عهدها، ليرتبط كل ذلك بمشاعر حاضرة تستمد جزءًا من جذوتها من أيام خوالٍ لا يحبون نسيانها.


يعبر شباب عراقيون في تواصلهم الاجتماعي عن نضج سياسي وثقافي متقدّم، وعن قدرة جلية على طرح المواضيع الجادة، ومزاوجة بين تحولات الحاضر وأحداث الماضي. وهم وجدوا في الانترنت نافذةً واسعةً للتعبير بحرية، فما كان منهم إلا أن جعلوا من التدوين وسيلتهم المثلى لاستذكار ماضٍ لم تتح لهم الظروف السياسية والتقنية بالتعبير عنه في وقته.

تعويض عفوي

ابتدأ عصر التدوين الإلكتروني العراقي في مطلع العام 2003، حين شاعت هذه الظاهرة لتصبح ملاذًا تعبيريًا عبر تبادل الآراء في غرف الدردشة الجماعية، وعبر التواصل بالكتابة والتدوين في المواقع الاكترونية لإبداء الرأي في قضايا محلية وإقليمية ودولية معاصرة.

إلى هذه الوظيفة، تضيف الباحثة النفسية والناشطة النسوية لمياء الخفاجي وظيفةً أخرى، هي quot;توثيق جانب منسي من الحياة العراقية القديمة، من خلال تحويل الصور الفوتوغرافية والوثائق الورقية إلى صفحات رقمية يطلع عليها كل من يريدquot;.

وتعتقد الخفاجي أن عملية التدوين والتواصل quot;تكتنز نوعًا من التعويض العفوي، يدفع الفرد إلى الافصاح عن مشاعر مكبوتة ترسخت في عقله الباطنquot;. ومن هذا المنطلق، نجح عددٌ كبير من شباب العراق في تشكيل حضور لافت على موقع فايسبوك، بمشاركتهم الجادة في القضايا الاجتماعية والسياسية، وحرصهم على اقتناص الأفكار من الذاكرة وتحويل صور الماضي وحكاياته إلى عامل مؤثر في تشكيل الحاضر.

وتوافقها في ذلك القاضي، الباحثة الاجتماعية والأكاديمية في علم النفس، التي تقول إن الفرد يحاول الرجوع إلى ماضيه كلما سنحت له الفرصة لأنه الأساس في الوجود الآني للفرد، ومحاولته صنع مستقبل أفضل.

وتأخذ القاضي على العراقيين إفراطهم quot;في عرض صفحات من الماضي على مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الاخرى التي تنشر الصور والمقالات والمدونات الشخصيةquot;، لكنها تعزو هذا التوجه العفوي الى الماضي كتعبير عن أفكار مكبوتة احتفظ بها العقل الباطن، حين لم يستطع الشخص في زمن النظام العراقي السابق صدام حسين من البوح بها بحرية وتلقائية.

جوع إلى التعبير

شبيب محمد مدون إلكتروني عراقي له خبرة طويلة في هذا المجال، إذ بدأ التدوين منذ أربع سنوات، ووثق عبر مدوناته الكثير من تفاصيل الحياة العراقية، لا سيما القديمة منها. وهو عازمٌ على توثيق الكثير من التفاصيل التي لم تدوّن طيلة الفترة الماضية.

وفي مبادرة شخصية منه، جمع شبيب صور خمسين من مفقودي الحروب وضحايا المقابر الجماعية مع سيرهم الذاتية لينشرها قريبًا على موقع فايسبوك، مذكرًا بمن لا يجب نسيانه أو تناسيه، من دون أن يعني ذلك نبشًا في قبور الماضي.

يشير علاء كولي، المدون والإعلامي العراقي الناشط إلكترونيًا، إلى أن الانسان العصري quot;تحوّل إلى مشاهد عام وليس الى مشاهد خاص، ومن حق متابعيه أن يعرفوه عن كثب عبر صوره ومذكراته وآرائه، وبذلك أصبح للحرية الشخصية مفهوم جديد في ظل انتشار التواصل الرقميquot;.

أما أحمد حسن، وهو عسكري سابق، لم يستطع توثيق حياته العسكرية، التي امتدت ثلاثة عقود في الجيش العراقي، إلا بصورتين وجدهما في اوراقه القديمة. نشرهما لكي يذكر نفسه والعراقيين بسنوات الحرب العراقية الإيرانية الصعبة. يقول: quot;كان يصعب توثيق الحرب بالصور، لكن ذلك لم يكن يشكل حينها أي أهمية قياسًا بحجم المأساة التي عشناها على الجبهةquot;.

وفي حلقات، نشر سعد حسن (50 عامًا) صورًا لمدينته تعود إلى أربعة عقود، كما حوّل الصور الفوتوغرافية التي يحتفظ بها الناس في بيوتهم صورًا رقمية لينشرها في موقع فايسبوك. وهو يعرب عن سعادته لأنه لمس في الناس فرحًا غامرًا وهم يستعيدون ذكرياتهم بالتحديق في هذه الصور القديمة، ومنهم من طال غيابه عن العراق فأعادته الصور إلى ماضٍ ظنوه ولى إلى غير رجعة.

يلفت الاعلامي العراقي هاشم السيد إلى تزامن سقوط النظام العراقي السابق وانطلاق ثورة المعلوماتية. يقول: quot;بعد فترة طويلة من الحرمان، سعد العراقيون بالتحرر من الدكتاتورية وبالانفتاح الاعلامي والاقتصادي بعد العام 2003quot;. كما يؤكد على quot;جوع عراقي قديم للتعبير، افرغه العراقيون مباشرة عبر التواصل الاجتماعي وتصفح مواقع الانترنتquot;.

ماضٍ مختلف عليه

إلى جانب من يستذكر اليوم ماضيًا تعذّر فيه التعبير بسبب ظلم النظام السابق، ثمة من يستذكر خلاف ذلك. فعبر العديد من المدوّنات، نشر ليث السامرائي مواد وصورًا يستذكر فيها انجازات صدام حسين، قائلًا إن quot;استحضار صدام في هذا الوقت ضروري جدًا لتذكير العراقيين بزمن القوة والسلم الأهليquot;. فبحسب السامرائي، لم يخص صدام الحروب الا بسبب العدوان الخارجي، بل كان كارهًا للحرب.

أثار هذا القول حفيظة كثيرين استعادوا صورًا من الماضي الأليم، ليردوا عليه ناشرين أثار الحروب التي خاضها صدام وحكايات الخراب والقتل والمقابر الجماعية.

يقول أحمد حسن، الذي ينشر في كل مرة صورًا للجيش العراقي في عهد النظام السابق قبل العام 2003 وصورًا قديمة لصدام حسين، إن نشر مثل هذه الصور والمقالات والاخبار القديمة يذكر العراقيين بفترة ازهر فيها العراق وأصبح قوة اقليمية لا يستهان بها، عكس حاله الآن.

ويتابع قائلًا: quot;يجب تسخير هذه الذكريات عبر مواقع التواصل الاجتماعي للاحتجاج وحشد الشباب للتظاهر ضد الأوضاع الاجتماعية والسياسية السيئةquot;.

وعكف محمد علاء على نشر صور وسير حياة أصدقاء رحلوا بفعل الحروب وهم شباب. وكلف ذلك علاء الكثير من الوقت والجهد لأن عوائل الشباب رفضت نشر صورهم. لكن أحمد تمكن من اقناع البعض منهم بأن التدوين الرقمي في الوقت الحاضر اسهام في تخليد ذكرى هؤلاء، وتذكير بماضٍ مظلم لا ينبغي أن يعود.