يحتد موقف الاتحاد الأوروبي الذي تقوده ألمانيا حيال السلوك الاستخباراتي الأميركي الذي لم يعد يفرّق بين حلفاء وأعداء، متجاوزًا كل حدود اللباقة السياسية والأعراف والتقاليد الدولية إلى التنصت على مكالمات رؤساء وزعماء دول حليفة وصديقة.


لندن: بعد أكثر من عشرة أعوام على تنصت الولايات المتحدة من دون تفريق بين الحلفاء وغير الحلفاء، شمل أكبر حلفائها في أوروبا، لا سيما فرنسا وألمانيا، تحاول واشنطن التخفيف من الاحتقان الأوروبي تجاه هذا التصرف تارة بالتأكيد على عدم علم باراك أوباما، وطورًا بالقول إن نظامها الاستخباراتي يخضع لتقييم كامل وشامل.

وفي حال التحرك الدولي تجاه هذا البرنامج الذي يعد أكبر برنامج تجسس في العالم، فإنه سيعرض الولايات الأميركية لصعوبات قانونية وإجراءات معقدة ستضع مصداقية واشنطن وثقة الحلفاء فيها على المحك من جانب، وموقفها القانوني أمام كبرى شركات الكمبيوتر التي قامت وكالة المخابرات الأميركية بتنزيل برنامجها على أنظمتها دون علمها، حيث تنكر معظم الشركات معرفتها عن وجود برنامج حكومي كهذا أو حتى عن سماعها باسمه من قبل، ما يعني أن هذا البرنامج يمكن وكالات الاستخبارات على الحصول على ما تريد من معلومات من دون مذكرة أو تصريح رسمي، ومن دون الحاجة إلى إذن من الشركات المشاركة بالمشروع، ما يعد خرقًا كبيرًا للخصوصية.

125 مليار تجسس خلال شهر

يأتي هذا في الوقت الذي كشفت فيه ياهو نيوز أن وكالة الأمن القومي الأميركية راقبت خلال شهر واحد نحو 125 مليار مكالمة هاتفية حول العالم، وكان للحلفاء النصيب الأكبر من هذا التنصت، في رسالة مفادها أن واشنطن لم تعد تثق حتى في حلفائها، معظم تلك المكالمات التي تجسست عليها الوكالة جاءت من الشرق الأوسط، إلا أن بينها ما يناهز 3 مليارات في الولايات المتحدة ذاتها.

وأضافت التقارير نقلًا عن ملفات سرية مسربة من قبل موقع quot;Cryptomequot; الذي رصد 124.8 مليار مكالمة خلال كانون الثاني (يناير) الماضي من قبل الاستخبارات الأميركية. وجاء النصيب الأكبر من المكالمات التي اعترضتها المخابرات الأميركية من أفغانستان (21.98 مليار مكالمة)، وباكستان (12.76 مليار مكالمة).

وفي الشرق الأوسط لم يشفع للسعودية 80 عامًا من العلاقة التاريخية والحلف الاستراتيجي مع واشنطن، وتعامل مثالي في مكافحة الإرهاب في الحد من اهتزاز الثقة، لتنصت الولايات المتحدة على نحو 7.8 مليارات مكالمة في السعودية في شهر كانون الثاني (يناير)، ومثلها في العراق، في حين كان نصيب مصر حوالي 1.9 مليار مكالمة، وايران 1.73 مليار مكالمة، والأردن 1.6 مليار مكالمة.

وفي أوروبا، تنصتت الولايات المتحدة على 60 مليون محادثة هاتفية خلال شهر، فيما تشير تقارير أخرى أنها سجلت 70,3 مليون مكالمة هاتفية لفرنسيين فقط في الفترة بين العاشر من كانون الأول (ديسمبر) 2012 والثامن من كانون الثاني (يناير) 2013، وهو ما نفته وكالة الأمن القومي الأميركية.

برنامج quot;بريسمquot;

يعود تاريخ الكشف عن تفاصيل برنامج المراقبة الأميركي quot;بريسمquot; إلى الخامس من حزيران (يونيو) الجاري، حين سرب الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية إدوارد سنودن وثائقَ سرية حول البرنامج إلى صحيفتَي واشنطن بوست وغارديان، تناولت تنفيذ حكومة الولايات المتحدة برنامج مراقبة سرية على نطاق واسع اسمه quot;بريسمquot;، يمكّن وكالة الأمن القومي الأميركية من الحصول على تفاصيل البريد الإلكتروني وتسجيلات نقل الملفات ومكالمات الهاتف، بالإضافة إلى المحادثات الحية بشكل سهل وسريع.

كما يمكن البرنامج الوكالة من الحصول على وقت وموقع مكالمات الهاتف الخاصة، إضافة إلى أرقام الهاتف، مع إمكانية الوصول إلى خوادم شركات الإنترنت، ومن بينها مايكروسوفت وياهو وغوغل وفايسبوك وأبل، وذلك للحصول على أية معلومات تريدها، ساعدها في ذلك أن عدداً كبيرًا من الاتصالات الالكترونية العالمية يمر عبر الولايات المتحدة.

ومشروع التنصت الأميركي quot;بريسمquot; يتم تنزيله على أنظمة الشركات، يمكن هذا البرنامج أجهزة الاستخبارات من الحصول على كافة المعلومات التي تملكها شركات الإنترنت.

وبدأ المشروع في العام 2007 و بسرية تامة، و أول من شارك به كانت مايكروسوفت منذ إطلاقه في شهر كانون الأول (ديسمبر) من ذلك العام، ثم لحقتها ياهو في 2008، ثم غوغل وفايسبوك وبال توك في 2009، ثم يوتيوب في 2010 و سكايب و AOL في 2011 و في النهاية آبل في 2012، والمشروع مستمر بالتوسع ليضم شركات أخرى ومنها دروب بوكس. وتنكر معظم الشركات معرفتها بوجود برنامج حكومي كهذا أو حتى عن سماعها باسمه من قبل.

الشرارة الكبرى

التنصت على المكالمات لم يقتصر على مواطني الدول الحليفة وغير الحليفة كي يكون في حكم المسكوت عنه، لكن تجاوز ذلك وفقًا لتسريبات سنودن ليشمل 35 رئيسًا وقائدًا من قادة دول العالم، من بينهم المستشارة الألمانية انجيلا ميركل التي تعد أكبر حليف أوروبي لواشنطن، فقد ذكرت تقارير أن الاستخبارات الأميركية تنصتت على هاتفها الخلوي لمدة عشر سنوات، إلى جانب التنصت على مكالمات للرئيس المكسيكي انريكي نييتو.

ورغم أن واشنطن قالت إنها أوقفت برنامج التنصت على رؤساء الدول الحليفة، لكنّ مسؤولاً أميركياً أكد أن برنامج التجسس على زعماء العالم لا يزال مستمرًا، وأن واشنطن لم تتخذ حتى الآن قرارًا نهائيًا لإيقاف التنصت على مكالمات رؤساء وزعماء الدول الحليفة للولايات المتحدة، مؤكدًا أن ما قالته رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي دايان فاينستاي بشأن إبلاغها من قبل البيت الأبيض أنه سيتم إيقاف عمليات جمع المعلومات حول الدول الحليفة غير صحيح.

الغضب الألماني

بلغ الغضب ذروته في الأوساط السياسية الألمانية رغم محاولة البيت الأبيض نزع فتيل يعرف جيدًا أن عواقبه لن تكون محمودة على العلاقة مع الحليف الأكبر في أوروبا، لكن العتب الألماني تجاوز حدود اللباقة السياسية إلى التلويح بالاستعانة بسنودن كشاهد في قضية ضد واشنطن.

ورغم أن أوباما أكد لميركل أنه لم يكن يعرف شيئًا حول تنصت أجهزة استخباراته على هاتفها الخلوي، وأنه لو علم بتنصت المخابرات الأميركية المحتمل عليها لأعطى أوامره لإيقافه فورًا، وإعلان أسفه واعتذاره لها، تصر صحيفة بيلد الألمانية أن أوباما لم يعطِ أوامر لوكالة الأمن القومي كي توقف التنصت على مكالمات ميركل عام 2010، ونقلت عن مصدر أمني أميركي أن أوباما كان يطالب وكالة الأمن القومي بتزويده بتقارير كاملة عن نشاط ميركل، وأن مدير الوكالة كيت الكسندر كان يقدم بنفسه التقارير في 2010.

وسيجتمع المجلس الاتحادي الألماني في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) القادم لمناقشة الادعاءات المتعلقة بتنصت وكالة الأمن القومي الأميركية على مكالمات المستشارة الألمانية، في الوقت الذي تصر فيه برلين على تقديم واشنطن إيضاحات شاملة حول سلوك مخابراتها.

موقف الاستخبارات

لكن حديث مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية جيمس كلابر زاد الأمور تعقيدًا، عندما أكد أن الأجهزة الاستخباراتية ارتكبت بعض الأخطاء أثناء جمع المعلومات لكن عملها مشروع، وأن أخطاء المخابرات كانت ناجمة عن العامل الانساني أو مشاكل فنية، بينما نفى الأربعاء الماضي التجسس على 70 مليون مكالمة صادرة من فرنسا.

وأكد كلابر، خلال جلسة الاستماع في لجنة شؤون الاستخبارات لمجلس النواب الأميركي، أن عمل وكالة الأمن القومي الأميركية لجمع المعلومات عن الاتصالات الهاتفية والاتصالات عبر الانترنت فعّال، ولا يخالف القانون، ولفت إلى أن المخابرات الأجنبية، بما فيها مخابرات حلفاء الولايات المتحدة تتجسس دائمًا على القادة الأميركيين والاستخبارات الاميركية.

كما نشر عددًا من الوثائق السرية حول برنامج التجسس لوكالة الأمن القومي، يعود تاريخ معظمها إلى العام 2009، وبعضها إلى العام 2011، وتظهر أن وزارة العدل الأميركية وافقت على التنصت على المكالمات من خلال الهواتف المحمولة ابتداء من العام 2010. وتشير الوثائق إلى أن وكالة الأمن القومي ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة العدل كانت تبلغ أعضاء الكونغرس الأميركي بنيتها زيادة جمع المعلومات الخاصة بأرقام الهواتف ومدة المكالمات، وليس مضمون المكالمات. وتهدف وكالة الأمن القومي الأميركية من خلال نشر هذه الوثائق إلى إقناع المواطنين الأميركيين بأن برنامج التنصت لم ينتهك حقوقهم الشخصية.

أعلن كيث ألكسندر، مدير وكالة الأمن القومي أن المعلومات التي نشرها سنودن عن عمل الوكالة تهدد الأمن القومي الأميركي، نافيًا صحة ما نشرته صحيفة لوموند الفرنسية وايل موندو الاسبانية ومجلة ليسبريسو الايطالية من معلومات عن التنصت الأميركي على مواطني هذه البلدان.