الفتنة اليوم على كل لسان، لكن من يستبعدها أكثر بكثير ممن يستقربها، لأن ما يعمل لدفنها في مهدها رغبة عارمة في عدم هدم لبنان مرة أخرى، وتوازن رعب طرفاه حزب الله والتيارات السنية المقاتلة. ويقول النائبأكرم شهيب إن فريق 14 آذار تراجع عن مواقفه في سبيل منع الفتنة.


بيروت: قد يندر أن يصرّح مسؤول لبناني، ممّن والوا الحكومة وممن عارضوها، تصريحًا من دون أن يؤكد أنه، بما يمثل، يقف سدًا منيعًا بوجه المفتنين، الساعين إلى إيقاظ فتنة نائمة، مصرًّا على لعن من يوقظها.

وقد يندر في الآن نفسه أن يخلو أي تحليل سياسي أو صحافي، من أي جهة نبع، من تحذيرات من اندلاع أي فتنة في البلاد، خصوصًا بين السنة والشيعة، ومن تداعيات هذه الفتنة متى استيقظت.

توازن الرعب

كعادتها الأسبوعية، استفتت quot;إيلافquot; قراءها خلال الأسبوع الماضي، سائلة إياهم: هل تتخوف من فتنة سنية شيعية في لبنان؟. 70 بالمئة من قرّاء quot;إيلافquot;، الذين شاركوا في الاستفتاء هذا، أعربوا عن اطمئنانهم إلى أن لا خوف من فتنة سنية ndash; شيعية تجتاح لبنان، مقابل30 بالمئة يخشون وقوعها.

لا بد أولًا من القول إن هذا مطمئنٌ، وإنه دليلٌ على أن القواعد الشعبية العربية، في لبنان وفي غيره، لا تروم فتنة بين أهل السنة والشيعة، ولا يريدونها. لكن إلامَ يردّ هذا الاطمئنان، إن كانت الفتنة واردة على كل لسان، وإن كانت تطلّ برأسها بين الفينة والفينة، وكأنها جمر تحت الرماد؟، خصوصًا إذا كان الجميع يضع مزيدًا من الرماد، طبقات فوق أخرى، كيما تبين الجمرات الحمر؟.

ويقول سليم لـquot;إيلافquot; إن الوسادة التي يستريح عليها هذا الاطمئنان هي بكل بساطة استمرار توازن الرعب قائمًا بين التيارات السنية المسلحة، النابتة حديثًا، وبين القوة الشيعية المقاتلة، الممثلة في حزب الله. يضيف: quot;طالما أن هذا التوازن قائم على مستوى تلقي الجمهور، فلا خوفquot;.

يرى سليم أن قراء إيلاف سينقلبون، كما غيرهم من المتفائلين، على هذه النتيجة، مع أول دم مذهبي يستباح. فسليم إذًا لا يتفاءل كثيرًا في هذه الطمأنينة، إذ لا يمكنه الركون إليها على المدى الطويل، خصوصًا أنه يرى النزاع في لبنان جزءًا من النزاع في المنطقة، يعبّر عن نفسه من خلال الهويتين، السنية والشيعية، في لبنان والمنطقة.

لا يريدونها

إلا أن أحدًا في لبنان لا يريد الفتنة، لأنه يعرف ويلاتها، بينما يرجم كل طرف لبناني الطرف الآخر بحجر الاتهام الثقيل. فحزب الله، المتهم دائمًا بأنه السبب الممكن في حصول هذه الفتنة، ولو من دون أن يريدها، لا يغادر فرصةً إلا ويؤكد فيها أنه عامل كل العمل لإبعاد شبح هذه الفتنة.

ففي كل الخطابات المتلفزة، منذ نصر تموز/يوليو 2006 وحتى اليوم، مرورًا بمحطات أساسية في البلاد أهمها محطة 7 أيار (مايو) 2008، كان أمين عام حزب الله حسن نصرالله يصرّ دائمًا على أن كل خطوة يخطوها تصبّ في خانة درء خطر الفتنة عن لبنان. حتى حين وصف نصرالله الشيعي يوم 7 أيار (مايو) باليوم المجيد، متحديًا قطيعًا كبيرًا من السنة، لم يرَ في ذلك الوصف ما يثير الفتنة.

وما وأد الفتنة في يوم 7 أيار (مايو)، وفي يوم وصف الحدث باليوم المجيد، كان عزوف السنة عن الانقياد في صراع أضداد أنداد مع نصرالله، الذي يتأبط القرار الشيعي وقرار غالبية قوى 8 آذار، كما قال نهاد المشنوق، النائب في كتلة المستقبل، لـ إيلاف، على الرغم من أن الجميع يعرف أن هذا العزوف لم يكن ترفعًا، ولو وصف بعدها بهذه الصفة جبرًا، بل كان ناتجًا من وهن ميداني، بان جليًا في انهيار مكاتب المستقبل ومناطق نفوذه في ساعات معدودة، كما يلاحظ سليم.

وفي خطابه الأخير، ذكر نصرالله أن الفتنة السنية - الشيعية ليست من مصلحة لبنان، وأي اقتتال طائفي أو فتنة داخلية أمر خطر ومرفوض بكل المعايير، محمّلًا بعض النواب والمشايخ في الطائفة السنية باتخاذ منحى تصعيدي خطر، بتوجيه اتهامات لحزب الله تؤسس لاحتقان شعبي وسياسي.

مصالح خارجية

يقارب نعيم قاسم، نائب أمين عام حزب الله، مسألة الفتنة ببعض الاختلاف، إذ يؤكد في حديث صحافي أن الوحدة بين المسلمين أصل شرعي وسياسي، quot;ولو فتشنا عن المحرّضين على الفتنة لوجدنا أن البداية من مصالح أميركا وإسرائيل، فهما المستفيدتان من شق الصف وتفريق المسلمين، وإيجاد الصراعات الداخلية لتخريب بلداننا من داخلهاquot;، لأنه يرى أن دعاة الفتنة السنية - الشيعية لا علاقة لهم بالمذهب الشيعي ولا بالمذهب السني، إنما هم في مواقع سياسية تستلزم أن يستخدموا العصبية السنية أو الشيعية لتعزيز مواقعهم في مخالفة مصالح المسلمين، وبعض الذي يرتدون الزيّ الديني يلحقون بهؤلاء الزعماء، ويعملون تحت إشرافهم وتوجيهاتهم لبث الفتنةquot;.

وكذا شهيب، الذي يقول إن ثمة في الطائفتين من يريد فتنة، ومن لا يريدها، quot;فالمصالح تحكم هذا الخلاف، بينما الأفكار كلها متجهة إلى ردعهquot;.

إلا أن سليم يتمسك بواقعيته، ويقول إن الحروب قد لا تقوم دائمًا على الحقائق، إذا سلمنا جدلًا بحقيقة أن الطرفين لايريدان الفتنة، بل قد تقوم على بعض توهمات، quot;كتوهم صراع سني- شيعي، رمى فتيله رئيس الوزراء نوري المالكي في مدار كلامه عن سوريا ونصر المعارضين فيها، وهذا التوهم لا يمكن ردعه بمجرد طرح الأفكار من الجانبين، لأن هذه الأفكار لا يمكن أن تقنع السني البيروتي مثلًا بأن حزب الله لم يصفعه ثقيلًا في غزوة بيروت في 8 أيار 2008quot;.

إحباط سني

يقف اعتدال تيار المستقبل السني وحيدًا في الساحة اليوم، ويُتهم من بعض السنة أنفسهم بالعجز عن المواجهة، وبالتسليم بالظلم الذي يتعرّض له أهل السنة. يرد المشنوق واثقًا: quot;لا يمكننا نحن دعاة الاعتدال أن نقبل بما يقال عن مظلومية سنية، فهذه غير موجودة، بل تثار فقط لتبرير مزاعم مظلوميات شيعية وغيرها، ونحن في تيار المستقبل نقف وراء خيار واحد وحيد، هو الدولة اللبنانية، فلا نحن أهل فوضى ولا فتن، بل سلاحنا موقفنا وسلميتنا، ورهاننا على وعي كل الفرقاء في لبنان للوقوف منيعًا في وجه المفتنينquot;.

هذا الرأي لا يعمّ حكمًا الشارع السني اليوم، خصوصًا أن الشيخ أحمد الأسير يأكل من صحن المستقبل جنوبًا وبيروتًا وبقاعًا، والتيارات السلفية المستجدة تأكل من صحنه شمالًا. والأسير وإخوانه في المناطق السنية ملأوا فراغًا، ولو صوتيًا، تركه المستقبل بنبذه المجابهة الميدانية. فهؤلاء معروفون اليوم بعداء مستميت لحزب الله، ما ينزلهم في الوعي السني منزلة الحريصين على السنة المضطهدين، خصوصًا أن الساحة السنية لم تأت يومًا بمن تحدث عن غبنٍ أصاب السنة المنصهرين مع غيرهم في بوتقة الوطن الذي جمع أشلاءه الرئيس رفيق الحريري، quot;والذي اجتمع الوطن كله حول أشلاء رفيق الحريري حين استشهادهquot;، كما يقول المشنوق.

يقول سليم: quot;هؤلاء من أقول إنهم يوفرون توازن الرعب، الذي يقي البلد شر الفتنة، النائمة بعين مفتوحة، وليسوا هم من سيؤدي إلى إيقاظها، خلافًا لما يساق ضدهم من اتهامات، بأنهم رأس الفتنة وأساسهاquot;.

وصفة الفتنة

لا وصفة سحرية لفتنة سنية - شيعية في لبنان. فسليم لا ينتظر مؤامرة كبيرة لتكون عود الثقاب الذي يشعل هذه الفتنة، quot;إذ يكفي حادث فردي في أي منطقة من المناطق السنية، في بيروت أو خارجها، مع شاب شيعي لتستعر نار الفتنة، وليركض كل سعاة الخير وحكماء الفريقين محاولين وأدها في مهدهاquot;.

لربما تكون القشة السورية، بحسب شهيب، هي ما يقصم ظهر البعير الفتنوي اللبناني، خصوصًا أن كل الأطراف اللبنانية مدركة أن سوريا متجهة يومًا بعد آخر نحو الصوملة. كما إن كل الأطراف، حتى أولئك المنادين بالنأي بالنفس، قد دسّوا أصابعهم في ثقوب الأزمة السورية. وهذا ما يجعل لبنان أخف من ريشة في مهب الريح السورية، خصوصًا أن الصراع في سوريا يتضيّق إلى حدود الحرب بين سنتها وعلوييها، أي بين سنة وشيعة، ما وخز المالكي ليعرب عن خوفه من انتقال الفتنة نفسها إلى لبنان والعراق.

وهذا خوف في محله، يقول المشنوق، إذا استمر حزب الله على موقفه المناصر للنظام السوري، داعيًا الدولة اللبنانية بأجهزتها كافة إلى عدم ترك الأمور على غارب حزب الله، quot;فعندما تتوقف الدولة عن القيام بدورها الحقيقي في حماية المواطنين، وفي التأليف بينهم، ستنقلب الأمور إلى ما لا يحمد عقباهquot;.

السلاح وقودها

من الجانب الآخر، لا يرى تيار المستقبل، الوجه المعتدل للسنة، الذي بدأ يفقد ماءه مع تراجع في شعبيته السنية لمصلحة التيارات المتطرفة المقاتلة النابتة على أطرافه الطرابلسية والصيداوية، لا يرى وجهًا للفتنة الممكنة إلا وجه السلاح.

يقول المشنوق إن تيار المستقبل تيار مدني، غير مسلح، يروم أن تقوم الدولة على أبنائها جميعًا، سنة وشيعة وغيرهم، quot;ومن هنا، لا نرى أن توسلنا فتنة سنية ndash; شيعية يقع في مصلحتنا، أو في مصلحة السنة في لبنان، وتراجعنا في 7 أيار (مايو) خير دليل على أننا كما العين، التي قاومت مخرز المسلحين، الذين انتشروا في المناطق، ولم يسعنا ردهم إلا بالمنطق، وبالتمسك بثوابتنا، أي الدولة والشرعية لا الدويلات والسلاح غير الشرعي، وهذا ما دفن الفتنة حينهاquot;.

هذا الرأي يدعمه النائب أكرم شهيب، من كتلة جبهة النضال الوطني، إذ يستعيد مواقف 14 آذار وقتها، التي اختارت تقبل أي خسارة، والتراجع عن مواقفها التي تراها محقة، quot;في سبيل منع حصول الفتنة، وهذا ما لاموا عليه النائب وليد جنبلاط، الذي رضي حتى بالذهاب إلى سوريا لمنع نشوب هذه الفتنةquot;.

ولا يكتفي الكاتب السياسي لقمان سليم بهذا التبرير، بل يقول إن توازن الرعب الذي هلّ في حلبا آنذاك، هو الذي امتص الدم الذي أريق حينها وبعدها، ويستمر في امتصاص أي دم سيراق في المقبل من الأيام.

يضيف المشنوق: quot;المطلوب من حزب الله التوقف عن الممارسات المذهبية الخاطئة، التي تؤدي إلى الحرب، والاستفادة مما يجري في سورياquot;.

توازن الرعب