هل مسحت دمك عن بطاقة quot;النهارquot; الصحافية؟ ربما لم تفعل. وكان حرياً بك في بلد تعرفه جيداً ان لا تفعل. على الأقل حتى تثبت انه دمك، ولو اني أشك ان يصدق الخصوم أنه دمك. ثم ماذا، قد يجرح المرء نفسه من طريق الخطأ. وقد يفجر سيارته عرضاً او استعراضاً. ألم تنجُ؟ اتريد دليلاً أسطع على رغبتك باستعراض النار من نجاتك؟ هذا بلد أصبح عاجزاً عن تبين دمه. حتى الميتين فيه نكرات وبلا اسماء. لا ندين لهم بشيء، ذلك أننا لو أردنا سداد الدين الذي في أعناقنا لموتانا لما اتسعت أعمارنا للسداد. إذاً، فليمت الميتون.
غريب، فتشت على رسالتك اللبنانية الأخيرة في الصحف ومواقع الأخبار اللبنانية، لم تنشر! من كان بعيداً مثلي عن ساحة الحدث قد يخطئ أكثر من مرة. قد يكون ثمة من نشر رسالتك اللبنانية الأخيرة قبل سفرك إلى باريس في زاوية ما. لكنني متأكد أنني رأيت صورتك. هل أصبحت مثل الشهداء صامتاً ومرئياً؟
ثم ما نفع الكلام. لندع كلام القلوب في القلوب. ولنستمع جيداً إلى البلاغ الأول، او الثاني أو الأخير. هل ثمة من يصدق الجروح؟ أكيد، ما زال في لبنان ثمة من يصدق ويؤمن ان الجرح ما زال جرحاً، وان الألم موجود. لكنهم صامتون كأشباح. من أخذهم بيده ليسكنوا في هذا الصمت؟ قد نكون جميعاً فعلنا ذلك منذ اللحظة الأولى. هل كان يجدر بنا ان نتسامى ونترفع عن الألم؟
يقولون انك ستقيم في فندق باريسي. لست المقيم الأول، ولن تكون الأخير. على أي حال، الفنادق تليق بمن كان مثلنا. هناك، في غرفها البيضاء، يمسحون كل صباح آثار المقيمين. ثمة خدم وندل كثر يعرفون واجباتهم. المطلوب ان نبقى بلا آثار، كريح مرت على الرمال. شأن الرياح ان تقول كلاماً للتاريخ. لكن الذين يقولون كلاماً للتاريخ في لبنان اليوم أكثر من أن نحصي عددهم. حسناً هل تعرف إن كانت أذن التاريخ مصغية أم أنها منذ عقود باتت في لبنان صماء؟ كم كلمة قيلت للتاريخ في سنوات الحيرة؟ انت تعرف البلد أكثر مني، لقد عشت فيه أكثر ونزفت فيه أكثر، وربيت احلاماً أكبر من أحلامي. هل ما زلت تعرف هذا البلد؟
يقال أنه القضاء. القضاء ليس صنواً للعدل. قد يخطئ القضاة، وقد يصيبون، يظلمون ويعدلون. لكنه ليس القضاء على الأغلب. إنه القدر، ان تنزف وتدفع ثمن دمك. هذا يكون قدراً لا قضاء. مع ذلك في وسع كثيرين ان يسموه قضاء. لا بأس، اعتدنا في لبنان على التسميات المخاتلة. الأحرار ليسوا أحراراً والمقاومون ليسوا مقاومين، وصناع الرأي أصبحوا جزارين. هنيئاً للصحافيين بهذه الوظيفة الجديدة. لكنها المرة الأولى التي يكون فيها الصحافي في لبنان جزاراً وشامتاً في الوقت نفسه.
حسناً، انت الآن هارب من دمك إلى اللامكان. هل في وسعك ان تبني شرفة في الهواء؟ هل في وسعنا معاً ان نرفع أعمدة وخيمة نخبئ في ظلها ما كان ذات يوم دمنا؟ يا لصعوبة هذا الوطن. حتى الدم اصبح فيه ناقصاً ويحتاج إلى اثبات.