المنطمات اليهودية في أميركا بين حدين: حد يفترض ان من واجبه الدفاع عن حكومة إسرائيل أكانت على خطأ ام على صواب، وحد آخر يفترض ان الدفاع عن وجود إسرائيل لا يفترض ولا يجب ان يدفع اليهود في أميركا إلى الدفاع عن حكومات تعيش وتسلك وتتصرف كما لو أنها ما زالت في ستينات القرن الماضي. منذ ذلك الحين جرت مياه كثيرة في المنطقة. بعض الدول، العربية خصوصاً، تحولت من دول ضرورية ويمكن الدفاع عن حقها بالوجود الآمن إلى أشباه دول، والبعض الآخر استطاع ان يخطو خطوات كبرى نحو حجز موقع مهم ومؤثر في الخريطة الدولية. السيد حسن نصرالله استشهد في واحدة من خطبه بما قالته هيلاري كلينتون مخاطبة الإسرائيليين. كلينتون ونصرالله قالا الشطر الأول من بيت القصيد. واخفيا الشطر الثاني وكل منهما لديه اسبابه الخاصة. ما لم تقله كلينتون في مخاطبتها الإسرائيليين، هو التالي: لم يعد أمر الاستعمار المباشر قابلاً للبحث في ما يخص بعض الدول العربية، اقله في ما يخص مصر والمملكة العربية السعودية. وأيضاً لا يمكن تخيل العالم، ايديولوجياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً من دون حضور فاعل لهذه الدول. من جهته السيد حسن نصرالله افصح عن رأي يقول: ان العالم العربي الذي يُخشى منه أميركياً وإسرائيلياً هو عالم المقاومات والممانعات. وان الدول الاخرى quot;المعتدلةquot;، وquot;المسالمةquot; لا مكان لها في عالم اليوم. لكن القائلين اتفقا ان إسرائيل ما زالت تعيش وتتصرف كما لو أنها ما زالت في طور التكون كدولة، وما زال جيشها يتصرف بعقلية العصابات في حين انه يفترض به ان يتصرف بعقلية الجيوش.
ليس الوضع مفرحاً. العالم العربي في اربعينات وثلاثينات القرن الماضي، ورغم اتفاقيات سايكس بيكو، كان أقرب ما يكون إلى الأوطان المستقرة والأمصار العامرة، على عكس إسرائيل الهجينة يومها والتي كانت اقرب ما يكون إلى بضعة جيوش من العصابات حملت عائلاتها معها في حروبها وترحالها. اليوم بات بعض العالم العربي أقرب إلى حال الفوضى التكوينية التي تسبق ولادة الاوطان بأشواط، والتي احياناً تحول دون ولادة الأوطان. يقال في عالمنا العربي عن حق ان إسرائيل لا تستطيع العيش يوماً واحداً من دون دعم أميركي وغربي. هذا الدعم لا يقف عند حد التسليح والتدريب وتمويل الحروب، بل هو دعم يرقى إلى صناعة اقتصاد وثقافة إسرائيليين من دون بنية تحتية مناسبة. إنما ما ننساه دوماً يتعلق بأوضاعنا نحن: هل سمحت الحروب المتكررة للبنان او حتى الاستعدادات للحروب ان يصبح البلد بلداً؟
هذا كله يساق في لحظة مفصلية من لحظات تجدد الصراع ضد إسرائيل بوسائل وأساليب متجددة أيضاً. اللبنانيون الذين شاركوا في اسطول الحرية، لم يكفوا عن التصريح أن وجود اجانب على متن السفينة التي شهدت المجزرة الإسرائيلية، هو ما جعل إسرائيل تقع في حرج كبير، وجعل العالم كله مهتماً بمصائر هؤلاء. ما المانع؟ هل يعني هذا رغبة متجددة في عزف المقام القديم والمتكرر نفسه والذي يفيد ان العالم لا يهتم لنا نحن العرب، لكنه يجد نفسه مجبراً على الاهتمام بمصائر مواطنيه المتضامنين مع الفلسطينيين؟ وإن يكن. حين يكون العالم منصرفاً عن مصائرنا إلى هذا الحد، لا يلام العالم فقط، بل نلام نحن أيضاً. فلنسأل انفسنا: ما الجهد الذي بذلناه حتى يبدي العالم اهتماماً بنا وبمصائرنا؟ هل ثمة في التبجح بضربنا عرض الحائط بالمقررات الدولية ما يدفع العالم لأن يقف إلى جانبنا؟ هل ثمة أيضاً في ترداد مقولاتنا الأثيرة التي يرددها قادتنا من دون كلل ما يجعل العالم متعاطفاً معنا كأفراد ومواطنين؟ تلك المقولات التي لا تكف عن اعتبار كل طفل وكل رضيع وكل شيخ وكل امرأة هو مقاوم ومقاتل وراغب بالاستشهاد. ما دمنا نرغب بالاستشهاد فما الذي يجعل اي كان يدافع عن ضرورة بقائنا على قيد الحياة؟
ليس خافياً ان خطاب المقاومات التي استهانت بأوطان واقتصادات وحيوات مواطنين وطردت ونفت وقتلت وسحلت ورمت مواطنين يخالفونها الرأي عن سطوح البنايات العالية، جعلت من حيواتنا ارخص كثيراً من حيوات المواطنين الغربيين. فما الذي نأخذه على العالم في الحال هذه؟ المحتفلون بانتصار الدم على السيف في واقعة اسطول الحرية يتناسون ان المهروق هو دم المتضامنين مع الفلسطينيين. هو نصر من دون شك، لكن الذين ماتوا في هذه المجزرة كانوا إلى جانبنا، وكان يفترض بنا أن نحزن لموتهم، أقله لأنهم لو استمروا أحياء لكانوا كرروا التضامن مرات ومرات. ما من شك ان هذا الضرب من النضال السلمي افعل كثيراً مما يعتقد البعض. لكنه مثلما نعلم نضال يخاطب رأياً عاماً عالمياً في الدرجة الأولى. وهو، اي الرأي العام العالمي من يحرج إسرائيل ويجبرها على التموضع في خانة القاتل وليس في خانة الضحية. الآن يتحفنا قادة الحرس الثوري الإيراني بإعلان الاستعداد لمواكبة القوافل البحرية لرفع الحصار عن غزة. هذا يقلل الفرص ويعدم الاحتمالات. سفن حربية تواكب سفن المتضامنين مع غزة وأهلها. هل هذا استجداء حرب بحرية من نوع ما؟ طيب، إذا كان الحرس الثوري الإيراني يريد فعلاً تنظيم اشتباكات بحرية مع البحرية الإسرائيلية فما الداعي لحشر المدنيين المتضامنين مع غزة وأهلها في وسط هذه المعمعة؟ ألا يجدر بنا أن نسأل عن الغاية الحرسية من هذا الإجراء؟ هل ثمة رغبة حرسية ثورية في مصادرة هذا النصر الذي تحقق وتحويله مرة أخرى إلى مجرد حمام دم؟ فنعود لنقيس ثمن دمنا بالشلالات في حين يقيس العالم ثمن دم مواطنيه بالقطرات؟