على شرفة الطبقة الثالثة من منزله، في مارينا دل راي، بولاية كاليفورنيا، جلس مصطفى محمود زايد على مقعده الأثير، واطلق النار في عينه مباشرة. الرجل الذي يبلغ من العمر 75 عاماً، قرر وضع حد لحياته المستوحدة. لكن جثته بقيت مسمرة على المقعد نفسه لعدة أيام، قبل ان تكتشف الشرطة ان ما ظنه الجيران دمية من دمى الهالووين ليس في الحقيقة إلا جثة صاحب المنزل المنتحر. كانت الجثة مرئية لعموم الجيران بوضوح، لكن أحداً منهم لم يكلف نفسه عناء الظن بأن ما بدا لهم دمية بالحجم الطبيعي قد يكون جثة الرجل الذي يسكن المنزل.
لم توضح تقارير الشرطة اسباب انتحار الرجل، ولم تقطع الشك باليقين بأن الطلقة التي اخترقت عين زايد قد أطلقها بنفسه رغبة منه في الخلاص من عيشه المتوحد. لكن اسباباً كثيرة تدفع للظن ان الرجل قضى انتحاراً. هذا ما يقوله الناطق الرسمي باسم الشرطة من دون ان يفصح عن ماهية هذه الأسباب. المسنون هنا لديهم اسبابهم التي لا تحصى للانتحار. الوحدة؟ طبعاً. الشعور بأن الحياة لا تستحق ان نبذل جهداً لأجل استكمالها على النحو الرتيب الذي هي عليه؟ مؤكد. الشعور بالغربة المطلقة عن الامكنة الأليفة وعن الجيران وعن غرف البيت نفسه؟ من دون شك. قضى مصطفى زايد انتحاراً لأن الحياة في هذه البلاد لا تعاش إلا حين يكون عيشها ضرورة مطلقة. فمن انهى كفاحه فيها واستقر عيشه على رتابة ودعة، وودع القلق اليومي الذي يضرب الجميع من دون استثناء، لا يجد سبباً للبقاء حياً.
كثيرون يعتقدون ان أميركا هي جنة المتقاعدين. ذلك ان المرء في هذه البلاد يمضي سحابة شبابه وكهولته مناضلاً ومكافحاً لتأمين تقاعده المريح. ساعات العمل لا تنتهي يومياً إلا وقد أهدر المرء كل طاقته، ليعود إلى بيته، يأكل وينام حتى الفجر، حيث يعاود سيرة البارحة. وطبعاً ليس لدى المرء وقت ليتفحص ما يجري في حديقة جاره، وليس غريباً ان تجلس جثة على شرفة المنزل المجاور عدة ايام من دون ان يثير وجودها قلق او فضول الجيران. لا وقت للفضول، وليس ثمة وقت للتضامن. حادثة جلوس الجثة اياماً عديدة على شرفة الطابق الثالث لا تهز أحداً. هذا من نوافل يوميات اميركا ومن طبائع عيشها اليومي. في احدى قصص رايموند كارفر، وهو القاص الأبرز في أميركا منذ عقود، يروي خبر اربعة اصدقاء اعتادوا الصيد على ضفة نهر في أحد الجبال، يركبون سياراتهم ويقودونها وقتاً طويلاً ليصلوا إلى المكان الذي اعتادوا الصيد فيه، لكنهم في إحدى هذه الرحلات يلاحظون جثة شابة تطفو على صفحة النهر الراكدة. لا يبدون اهتماماً، للوهلة الأولى، إذ ليس ثمة ما يثير اهتمامهم فعلاً. لكنهم بعد وقت قصير يقررون ان من واجبهم ابلاغ السلطات. يجرون الجثة ويربطونها إلى شجرة على ضفة النهر من قدمها، ويكملون ما بدأوه من صيد وتخييم. يصيدون ويأكلون ويشربون وينامون اياماً عدة والجثة في مكانها حيث تم ربطها. وحين ينهون ما جاؤوا لأجله يعودون من حيث اتوا، ويعمد واحد منهم للاتصال بالبوليس والإبلاغ عن وجود الجثة من اول هاتف عمومي يصادفونه. الأصدقاء الأربعة لا يشعرون انهم واجهوا أمراً يفرض عليهم تغييراً ما في روتينهم. شابة مقتولة لا تقدم ولا تؤخر في روتين الحياة اليومية، ولا ينبغي لها ان تقدم او تؤخر أصلاً. لا وقت لديهم لإضاعته. فالأميركيون دوماً يشترون الوقت، وليس ثمة سبب لإنفاقه على ما لا يخصهم او لا يتصل بهم اتصالاً مباشراً.
على هذا يبدو مفهوماً ان لا تتابع الصحف ووسائل الإعلام خبر بقاء جثة مصطفى محمود زايد اياماً عدة على الشرفة من دون ان تثير فضول أحد. لقد انتحر الرجل وانتهى الأمر. حادثة تحصل كل لحظة. الانتحار في هذه البلاد ليس حدثاً، وايضاً بقاء الجثة على حالها اياماً عدة ليس حدثاً. لذلك يجدر بالناس ان يتابعوا ما بدأوه، وان لا يأخذ حادث مماثل اكثر من دقيقتين من اوقاتهم الثمينة. اربعة اسطر في جريدة، وتختفي الجثة واثرها وتختفي ذكريات الرجل واسباب موته.
هل كان ثمة ما قد ينقذ مصطفى محمود زايد من الانتحار؟ ربما لو أن جاراً من الجيران بذل جهداً قليلاً لمحادثته يومياً، لكان أنقذ حياته من الانتحار. لكن حياة رجل مسن لا تساوي على الأرجح دقائق يومية من وقت احد الجيران. ربما كان الرجل لينجو من ميتته هذه لو ان اولاده يداومون على الاتصال به مثلاً. لكن زايد انتحر، والحياة التي كان سيعيشها لم تكن اثمن من محاولة اي كان ان يحفظها من الموت انتحاراً.
الحياة، فلنتركها للخدم يعيشونها عنا. على حد تعبير نيتشه، إنما ليس ثمة خدم في أميركا. فليعشها الخدم في ما وراء البحار.