في لبنان، يتبادل فريقا 8 و14 آذار - مارس الإتهامات حول من يبادر إلى التوتير المذهبي ومن يساهم فيه. كل فريق من الفريقين الآذاريين له حججه ومنطقه. بعضها صالح للتداول وبعضها الآخر لا محل له من الإعراب. مع ذلك يجدر بنا القول، ان التوتير حاصل وحالّ، ولا مفر من ملاحظته، وهو ليس نتيجة مباشرة لخطاب من هنا او تصريح من هناك، بل يمكن الجزم انه نتاج تراكمات لا تحصى ولا تعد.
على أي حال، لا ينسجم الحديث عن صراع سياسي خال من المذهبية والفئوية مع واقع تركيب القوى السياسية اللبنانية البنيوي. فشاء اللبنانيون ام أبوا، سيكون اي اعتراض او اعتداء على دولة الرئيس سعد الحريري اعتداء على الطائفة السنية، مثلما سيكون اي اعتراض او اعتداء على حزب الله ومن يمثله اعتداء على الطائفة الشيعية، وهذا ينطبق، بدرجة أكثر او اقل، على الزعماء الآخرين من الطوائف الأخرى.
لكن اكتساء الصراع اللبناني طابعه المذهبي المشار إليه لا ينفي عنه طبيعته السياسية الأكيدة. ثمة معسكران وفريقان، ولكل فريق من الفريقين رؤيته وخططه حيال مستقبل البلد، والأهم من هذا كله تقديره لموارده وقوته وقدراته. وعلى اساس تقدير القدرة واسباب القوة والموارد يقرر اي فريق من الفريقين طبيعة ردوده السياسية والشعبية على الفريق الآخر. والحال، ليس مستغرباً ان يفكر حزب الله وفريق 8 آذار - مارس من خلفه في ترتيب خطة للسيطرة على البلد سياسياً وأمنياً ومؤسساتياً. ذلك انه يعتقد، ولأسباب لا يمكن التقليل من وجاهتها، انه يملك من القوة والموارد ما يؤهله لهزيمة الفريق الآخر وإخراجه من الحكم جملة وتفصيلاً.
حزب الله لم يتورع عن الدعوة إلى الانقلاب على quot;نتائج انقلاب العام 2005quot;، الذي قامت به حركة 14 آذار - مارس. بالنسبة لحزب الله فإن اسباب القوة التي استمدتها هذه الحركة زالت كلها او تكاد. الهجوم الدولي الذي أنتج يومذاك انسحاباً سورياً من لبنان، على عجل، يشهد اليوم لحظة تراجع ومراجعة حسابات. علاقات لبنان الخارجية، تشهد اليوم ضموراً يعود بها إلى فترة ما قبل العام 2005، حين كانت تلك العلاقات مقتصرة على الولاء المطلق للنظام السوري، وهذا ما يمكن ملاحظته جلياً في الرد اللبناني الرسمي على دعوة جورج ميتشيل لبنان إلى إحياء مسار تفاوضي مع إسرائيل، حيث اثبت الرد اللبناني الرسمي ان هذا الملف عاد إلى الملكية السورية من دون شريك. ومعنى ان تضمر علاقات لبنان الخارجية إلى الحد الذي تعود معه مرهونة بالمرور من عنق الزجاجة السورية، يعني من دون شك ان البلد عاد محكوماً لمترتبات علاقته مع سوريا دون غيرها. وبكلام آخر، يمكن القول ان هامش المناورة الدبلوماسية اللبنانية ضاق كثيراً حتى ليكاد يختنق.
من جهة ثانية، وعلى وقع تزايد الحديث عن احتمال فتنة سنية ndash; شيعية، في لبنان، يمكن ملاحظة خفوت الحديث عن فتنة مسيحية ndash; إسلامية في لبنان. ذلك ان الطائفة المارونية، وهي طائفة مؤسسة في لبنان، تنقسم بين حدي المشروعين المتصارعين. والحق ان حزب الله وقوى 8 آذار - مارس لم تستطع ان تنتقل من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم والمناوشة بعد العام 2005، إلا حين استطاع حزب الله، لأسباب يتعلق بعضها بتسرع بعض قيادات 14 آذار يومها، ضم قسم أساسي من الموارنة اللبنانيين بقيادة الجنرال ميشال عون إلى كنف مشروعه واتجاهه. مما جعله يعدل في ميزان النصاب السياسي اللبناني الذي كان مختلاً في غير مصلحته عشية انطلاق ثورة الأرز، يوم كانت الطائفة المارونية برمتها، عدا نوافل قليلة، تقع قلباً وقالباً في صلب ومتن الحركة الاستقلالية. وبتعادل الميزان الداخلي، لم يعد ثمة مخرجاً ممكناً لحكم لبنان غير الشراكة والتوافق. ذلك ان البلد بات مقسوماً بالتساوي بين معسكرين ولا يمكن لأحدهم الاستئثار بالحكم وحده.
اليوم حزب الله يريد الانقلاب على التوافق والمشاركة، ذلك انه يعتقد ان اسباب القوة الخارجية التي تمتعت بها قوى 14 آذار - مارس ردحاً تعيش اليوم وإلى أمد غير منظور حالة سبات شتوي. وعليه فإن الفرصة سانحة لانقلاب سياسي يحكم فيه قبضته على الحكم.
في كل ما تقدم، ليس ثمة ما هو مستغرب او غريب. حركة سياسية تؤمن انها باتت قادرة على تجريد خصومها من امتيازاتهم، وتباشر العمل على ذلك. لكن هذا يقع في السياسة حصراً. والأرجح ان ما لا يوليه حزب الله اهتماماً كبيراً هو واقع ان النصاب السياسي اللبناني ما زال متعادلاً بين الفئتين. ثمة نصف البلد هنا ونصفه هناك، ولن تواجه الرغبة بالاستئثار بالحكم، بناء على تقدير مفرط لمصادر القوة والموارد، إلا فتنة لن تبقي ولن تذر.
يبدو ان حزب الله لم يحسب حساب الداخل اللبناني هذه المرة. بخلاف ما كانت عليه حاله في العام 2005. والخطأ في الحساب الداخلي، كما علمتنا تجارب لبنان نفسه، يطيح ليس فقط بالقوى التي تخطئ في الحساب، بل أيضاً بالقضايا الكبرى والتضحيات والنضالات التي بذل من أجلها الكثير من الدماء. ربما يجب ان يتذكر حزب الله المقاوم، ان خيار quot;أوسلوquot; الذي ما زال يعترض عليه حتى اليوم، ولد في بيروت المحاصرة والصامدة في وجه الاحتلال الإسرائيلي. يومها ايضاً صمد الفلسطينيون واللبنانيون في وجه الاجتياح شهوراً ومنعوه من احتلال بيروت بالقوة العارية. لكنهم وبعد الصمود الأسطوري أدركوا ان شيئاً جليلاً قد سقط ولم يبق ثمة مجال امامهم لتدارك ما فاتهم، فكان ما كان.