يفترض انطلاقا من المقاييس الأخلاقية الواحدة، أن تكون ردود الأفعال متطابقة على الفعل نفسهأيا كان مرتكبه والقائم به، بمعنى أن فعل السرقة مثلا هو سرقة، سواء كان السارق من طبقة فقيرة أو من طبقة غنية، وسواء كانت السرقة عشرين دولارا أو عشرين مليونا، وهذه المقاييس هي التي انطلقت منها مرارا في القول، بأن الاحتلال احتلال، لا يوجد احتلال جميل نصفق له واحتلال قبيح نقاومه. وضمن نفس السياق لفت نظري في الأيام القليلة الماضية عملان إرهابيان من نفس النوع في فلسطين والعراق، إلا أنّ ردود الفعل نحوهما كانا مختلفين، مما يؤكد وجود ازدواجية في التقييمات والأحكام العربية والإسلامية. ولنرى هذين العملين الإرهابيين بامتياز وردود الفعل عليهما:
الأول: إحراق مستوطنين إسرائيليين لكنيسة في القدس المحتلة
جاء في الأخبار عدد يوم الأحد الحادي والثلاثين من أكتوبر 2010، أنّ عددا من المستوطنين الإسرائيليين اقتحمواكنيسة بمدينة القدس المحتلة، وقاموا بحرقها، بعد أن كسروا النافذة الخلفية للكنيسة المكونة من طابقين، وألقوا زجاجات حارقة أدت إلى حرق الطابق الأرضي بجميع محتوياته. وهذه الكنيسة تعتبر من المعالم التاريخية الأثرية فقد بنيت عام 1897، وكانت عبارة عن مبنى لكلية فلسطين للكتاب المقدس حتى عام 1948.
الثاني:عشرات القتلى في احتجاز رهائن بكنيسة في بغداد
وجاء في الأخبار أيضا في العدد نفسه اليوم، إنّ مسلحين ينتمون لتنظيم القاعدة، اقتحموا كنيسة سيدة النجاة وهي واحدة من أكبر كنائس بغداد اثناء قداس الأحد، وقاموا باحتجاز المصلين رهائن، وأسفرت عملية الاحتجاز عن مقتل 44 شخصا بينهم 37 مسيحيا وسبعة من رجال الأمن، وأصيب 71 شخصا بجروح بينهم 15 من قوات الأمن، عندما أقدم أربعة من المقتحمين الإرهابيين لتفجير أنفسهم عند محاولة رجال الأمن تحرير الرهائن، ومن بين القتلى كاهنان من السريان الكاثوليك.
كيف كانت ردود الفعل علىهذين العملين الإرهابيين؟
الفعل الإرهابي الأول الذي قام به مستوطنون إسرائيليون ضد الكنيسة الفلسطينية،
لاقى استنكارا واسعا من أوساط عديدة، فلسطينية وعربية وإسلامية. فقد أدانت هذا العمل كافة المنظمات الفلسطينية اليسارية والإسلامية والحركة الإسلامية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. وكذلك أكمل الدين إحسان أوغلو الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، أدان هذا العمل والحملة الإسرائيلية ضد الأماكن المقدسة في القدس الشريف. وفلسطينيا رسميا أدان وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي هذا العمل الإرهابي، وأعقبه نبيل أبو ردينة الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية، وغالبية المنظمات والصحف العربية. ودخلت على خط الإدانة جبهة العمل الإسلامي في الأردن، وغالبية الحركات الإسلامية في الأقطار العربية. وبالطبع فما حدث للكنيسة الفلسطينية عمل إرهابي يستحق كل هذه الإدانات.
أما العمل الإرهابي الثاني،
ضد كنيسة سيدة النجاة في بغداد الذي قتل فيه حوالي خمسين شخصا، فلم تصدر ضده أية إدانات فلسطينية أو عربية أو إسلامية، ما عدا بيان واحد صدر عن المركز الكاثوليكي للإعلام في لبنان. هذا رغم فداحة الجريمة التي تبناها رسميا ما يطلق على نفسه ( دولة العراق الإسلامية) المرتبطة بتنظيم القاعدة الإرهابي، ولم يكتف بهذه العملية الإجرامية في العراق، بل هدّد أيضا المسيحيين الأقباط في مصر.
إنّ هذه الأعمال الإرهابية مدانة ضد كل أتباع الديانات والمذاهب وينبغي أن تواجه بإدانات من الجميع، إلا أنّ المؤسف هو أنّ غالبية الجهات الإسلامية لا تستنكر الهجمات الإرهابية ضد المسيحيين والكنائس المسيحية، بما فيها الجهات الإسلامية الرسمية مثل منظمة المؤتمر الإسلامي والأزهر والمرجعيات السنّية والشيعية، وغالبية الدعاة والشيوخ الذين لم يتركوا شأنا من حياة المسلم إلا وأفتوا فيه عشرات الفتاوي. إنّ هذا السكوت ليس من مصلحة التعايش بين الديانات الذي نتغنى به في الشرق العربي، وتعانق الهلال مع الصليب كما يقولون في مصر، وهو عناق على الورق فقط بدليل الاحتقان الطائفي الذي يتفجر علانية من وقت إلى آخر.
هذا التوتر الطائفي هو الذي يؤدي تدريجيا لتناقص ملحوظ في عدد المسيحيين العرب في أقطارهم، فحسب أرقام الكنيسة العراقية فقد انخفضت نسبة الكاثوليك في العراق من 2.89 بالمائة من إجمالي عدد السكان في عام 1980 إلى نسبة 0.94 بالمائة، أي من 378 ألف كاثوليكي إلى 301 ألف في عام 2008. ونفس الأرقام أكثر رعبا في فلسطين، فحسب الإحصائيات المتوفرة عام 2009، فإن المسيحيين الفلسطينيين لا يتجاوزون نسبة 2 % من عدد السكان، في حين أنهم كانوا قبل نكبة عام 1948 حوالي 20 % من مجموع السكان الفلسطينيين.
هذا الإرهاب مدان،
سواء كان مصدره إسلاميا أم مسيحيا أم يهوديا، فهذا الشرق العربي الذي أنعم الله عليه بأنه مهد الديانات السماوية الثلاث، لا خلاص له إلا بالتعايش السلمي بين الجميع، تعايش مبني على العدالة والمساواة للجميع، والسلام العادل الذي لا يتنكر ولا يصادر حقوق أحد بأية حجة أو ذريعة، وبدون ذلك ستظل المنطقة مفتوحة على حرائق لا يمكن التنبؤ بنتائجها، إلا أنه يمكن الجزم: لن ينجو منها أحد أيا كانت ديانته.
[email protected]
التعليقات