يا ترى كيف سيكون اللقاء الأول مع تلك المرأة الثمانينية التي يستاء الحكـّام منها، ويتعوذ الشيوخ منها، وتمنع كتبها، وتحرم نظرياتها، وترفض الجامعات والمؤسسات التعاون معها؟ كيف سيكون اللقاء مع تلك المرأة المكافحة التي عانت الأمَرّين في مواجهة كل من عاداها، تلك المرأة التي أصبحت رمزاً للتمرد، تلك المرأة التي تحدّت وتعدّت حدود الدين والسياسة والمجتمع!
كل هذه التساؤلات طرأت بيني وبين نفسي في الطريق إلي القاعة، حيث تقدم نوال السعداوي، وللمرة الأولى في لندن، دورة تدريبية لمدة ثلاثة أيام عن الإبداع والتمرد في الكتابة.
تساؤلاتي وحماسي قاداني إلي أن أسرع بخطواتي بلا شعور، وأسجل حضوري قبل الحضور بساعة. جلست في المقهي المجاور وأخذت أعيد قراءة lt;امرأة عند نقطة الصفرgt;، إحدى روايات نوال التي منعت من النشر، وتروى أحداث quot;فردوسquot;، فتاة عاشت quot;جهنّماًquot; يسمونها الحياة! تعمقت في القراءة حتى رفعت رأسي ورأيت quot;ابنة زينبquot;، ذات الشعر الأبيض وجديلتان كأنهما رمزاً لازدواجية الحياة!
تلك هي نوال التي نقرأها، تلك هي نوال التي نرى تمرّدها على شاشة التلفاز، تلك هي الطبيبة وعالمة النفس، تلك هي زعيمة الحركة النسوية، تلك هي quot;أم منىquot; وquot;ابنة زينبquot;، تلك هي quot;هي!quot; نوال السعداوي.
بكل شموخ دخلت، وبكل تواضع حاملة معطفها وحقيبتها، طالبة كوباً من quot;الاسبرسوquot; حتي لا تفقد طاقتها.
نظرات الحضور لم تختلف عن نظراتي، دهشة يصاحبها فضول. كثير من التساؤلات وغموض في التوقعات، كأننا في طور الدخول إلي احدى مسرحيات شكسبير.
جلست في مقدمة القاعة وطلبة كرسيّاً بجانبها، حيث أنها لا تحب الانفراد! ورغم أنها غنية عن التعريف، بدأت تعرف بنفسها كمواطنة لا تنتمي إلا لنفسها، لا لوطن ولا لدين ولا لحزب. تكره الأطباء مع أنها مارست مهنة الطب، وتكره المدرسين مع أنها مارست مهنة التدريس.
quot;أنا هنا لأغير ما فعله المدرسون بكم!quot; هكذا بدأت نوال: لكل واحد منا قابليّة للإبداع، لكن المدارس تقتل الإبداع! مناهج التعليم في دول العالم لا تترك للطلبة متسعاً من التفكير، تحدّ من قابليتهم لتحدّي الأنظمة، تحوّلهم إلى quot;روبوتاتquot; تحفظ وتطبق دون أن تناقش! خطيرة هي المدارس والجامعات، خطيرة هي ثقافة الترهيب التي تعوّد الطلبة على الخوف من الدين أو السلطة أو حتى الدرجات! تعرضت نوال السعداوي للفَصْل، ورُفِض تجديد عقدها في عدد من الجامعات الأمريكية لأنها رفضت مبدأ التعليم الخطير، رفضت نظام الامتحانات والدرجات والتخويف الذي بات يسيطر على العالم. الخوف والتخويف عاِئقان أساسيان لإبداع المرء. التعليم الحقيقي يكمن في الحوار والانشقاق والاتفاق. التعليم الحقيقي يكمن في الأخذ والعطاء بين الأساتذة والطلبة، فالكل يتعلم من الكل. لذلك طلبت نوال كرسيا بجانبها، حتى تَتَعلّم من كل من له نصيب في الحوار بجانبها، بينما تُعَلّم كل من له نصيب في حضور هذه الدورة المكثفة.
quot;ثقافة الترهيب تأتي من تعاليم الدين، والتطبيق الأعمى للدين يقتل الإبداع.quot; هكذا انتقلت نوال إلى الموضوع الذي تسبب لها بالعديد من المسائلات والتحقيقات والبغض والأحقاد. بالنسبة لنوال، العالم المثالي يخلو من أي دين ثابت ونص سماوي ثابت. ترى نوال أن الكتب السماوية كتب سياسية، ولذلك فالدين سياسة! سياسة حرب وغزوات وميراث وأموال، وكل هذه الأمور بعيدة كل البعد عن العدالة والسلام.
رغم أنني أبلغ من العمر ربع عمرها، ولست بمستوى علمها وثقافتها، إلا أن موضوع الدين أفار دمي! لم أستطع هضم نظريتها، ولم أتقبل ارتباط الدين بالسياسة بشكل مطلق. بلا شعور سبقتني كلماتي وعارضتها!
- quot;اسمحيلي سيدتي، فإن كان الدين في قاموسك سياسة مطلقة، فالدين في قاموسي روحانية مطلقة!quot;
ضحكت نوال وسألتني إن كنت أعارضها، فقلت quot;نعم. معارضة مطلقة!quot; فأشارت إلي بسبّابتها ونظرت إلى الحضور وقالت quot;هذا التمرد الذي يقود إلى الابداع!quot;. نادتني لأكون أول من يجلس بجانبها في quot;كرسي المواجهةquot;.
- quot;هيّا عارضيني!quot;
- أكثر ما يستفزني يا سيدتي ويا أيها الحضور سوء فهم الدين وسوء تفسيره وسوء تمثيله! تستفزني أفعال العنف والفساد باسم الدين! تستفزني أسلمة مبادئ كبت النساء وقهر الضعفاء بلا دليل مقنع ونص ديني معترف به. يستفزني استهتار الكثير بمبدأ الروحانية!
ضحكت نوال مرة أخرى وسألتني: quot;ماهي الروحانية؟ وماذا تفعل لك؟quot;
- الروحانية هي الإخلاص في العمل، والصدق مع النفس، والسلام الداخلي والخارجي. الروحانية هي التمعن في العبادة والخشوع في اتصال العبد بربه روحاً وقلباً وجسداً. الروحانية هي أن أحاور ربي بيني وبين نفسي، أن أحس بنعم الله وأشكره عليها، وأتألم من نقم الله وأشكو إليه. الروحانية هي أن أكرس القليل من وقت يومي لأنعزل عن عالمي وهمومي وضغوطات الحياة للحظات مناجاة مع الله. فكم من شخص يتمنى هذه اللحظات! الخروج عن العالم الخارجي ولو لوهلة! هذا هو ديني، وهذه هي نظريتي.
لحظات من السكوت عمّت على القاعة. ثم بدأ التصفيق يتتابع، تصفيقة تلو الأخرى. لم تقتنع نوال بكلامي، لكنها صفقت معهم. لم تؤمن نوال بديني ولا بروحانيتي، لكنها آمنت بقابليتي للإبداع، مما زادني إيماناَ وروحانية!
.هكذا كان اليوم الأول، هكذا كانت المقدمة. فالبادئ عظيم، والقادم أعظم!
*
كاتبة سعودية
التعليقات