من بين أشكال الحَث العنصري في الثقافة والاعلام الغربيين تبرز في العقود الأخيرة ظاهرة تكريس شيطنة العرب والمسلمين بأقلام أدباء عرب أو مسلمين. كثير من الأدباء وقعوا في هذا الفخ عن حسن نية أو عن ضعف إنساني اتجاه المغريات المادية والأدبية، والأمر نفسه حصل مع مخرجين سينمائيين وتلفزيونيين زرعوا التحقير بحق مجتمعاتهم وحصدوا الأموال والانتشار. ان التحقير العنصري المباشر والفج، الموجه للعامة، تتولاه البرامج التفزيونية والافلام، أما جمهور المثقفين فتتولاه آلية أكثر فطنة، يديرها الناشرون والمؤسسات الثقافية الكبرى، تزود هذا الجمهور، بشكل يومي ومطّرد، بما يشبه القصاصات المتناثرة (أعمال أدبية وفنية، كتب فكرية، مهرجانات، ندوات ولقاءات، وأخبار يومية منتقاة بدقة) الأحادية المغزى والاتجاه، يقوم الوعي الباطن للمثقف الغربي بجمعها لتوَلِّف في النهاية الصورة النمطية للفرد العربي والفرد المسلم.

حتى اذا تجنبنا التبسيط ولم ندرج بجرة قلم جائزة نوبل ضمن هذا المسار فلا مناص من الاقرار على الأقل بالمحاولات الدائمة والقديمة للتأثير عليها، ولاستغلالها، من قبل شتى الجهات والمهتمين، ومنهم الصحافة الثقافية: بمعنى انه سواء حين تكون جائزة نوبل جانيةً أو حين تكون ضحية فالعاقبة واحدة في الثقافة العالمية المعاصرة.

يخطر هذا لي وأنا أتابع الترحيب الذي حضي به صدور الطبعة السويدية لرواية نوال السعداوي quot;زينة: الرواية المسروقةquot;، وهو الكتاب رقم 7 في قائمة كتبها المنقولة الى السويدية. وبدا لي التنافس على امتلاك نوال السعداوي مثيرا للاهتمام. اليسار السويدي عموما، وقسم من التيار المساواتي، ومن بينهم مجموعة متحمسة من الشبيبة السويدية، يرفعون جميعا نوال السعداوي كشعار بحد ذاته؛ فيما يحرص النقد البورجوازي، وقسم آخر من التيار المساواتي، مع قسم كبير من العنصريين الصريحين والعنصريين المتخفّين (أي أصحاب العقلية الاستشراقية)، على الترويج للسعداوي على طريقة quot;شهد شاهد من أهلهاquot; أي بوصفها كاتبا منشقا عن العالم العربي والاسلامي يشهد على قبحه وظلاميته و بالتالي افتقاده الجذري والأبدي لأهلية الانتماء الى الحضارة الحديثة.

quot; في هذا الكتاب تواصل (السعداوي) كفاحها ضد الاضطهاد الديني للمرأة quot;، هكذا تقدم صحيفة سفينسكا داغ بلادَت، الممولة من المحافظين، quot;روايةquot; السعداوي quot;المسروقةquot; في عدد يوم 27 مارس (آذار) 2010. وعندما يمضي المرء في قراءة التقديم، الذي كتبه المحرر الثقافي للصحيفة، يتراءى له بأن نوال نفسها هي المسروقة: سرقها اليمين المعادي للعرب والمسلمين وجعل منها برهانا على حججه. هل هاجمت نوال الاسلام يوماً؟ هل ضيعت يوماً الخط الفاصل بين الدين ورجال الدين (وهم دائماً رجال)؟ هل عاملت يوماً العنصر الديني بمعزل عن العنصر الاجتماعي في نقدها للثقافة البطرياركية المهيمنة على الشرق أسرةً ومجتمعات وبلدانا؟ هل انتمت نوال السعداوي يوماً الى ما أدعوه بالعلمانية المبتذلة، تلك الحالة المرضية التي تجمع بين الاستفزاز لاثارة الانتباه وبين الانتشاء بجَلْد الذات، ناهيك عن التكسّب بذلك أحيانا؟ الجواب بالاجمال: كلا، لم تفعل طبعا. غير ان اليمين الغربي ومؤسساته الثقافية لا ينتفع من هذا الجانب ويقوم بحجبه محرفاً السيرة التي نعرفها للكاتبة ومقدماً إياها كناقدة للاسلام كدين.

يؤكد المحرر الثقافي للصحيفة رسالته المبطنة من خلال الاشارة الى ان الرواية ليست من عنديات كاتب لا يعرف العالم العربي فهي تقدم quot; نقداً من داخل مجتمع تعرف (الكاتبة) كل ركن فيه quot;. والرسالة هي كما أشرت إليه آنفاً التبجح بوجود quot;شاهدquot; من العالم العربي أو الاسلامي يعضد الحجج الاستشراقية والعنصرية. تتأكد الرسالة أيضا من خلال ابراز مقتبسات بعينها من الرواية. المقتبس التالي مثلاً (مترجماً من قبلي عن النص السويدي وليس نقلاً عن الأصل العربي، للدقة): quot; ليس ثمة علاقة بين العدالة والدين. فقد توجد عدالة في عالم خال من الدين. كما ليس ثمة ارتباط بين الاخلاق والدين، فالناس يمكن أن تكون لهم أخلاق عالية من غير أن يكونوا مؤمنين quot;. طبعا قد يحاجج البعض بأن الكلام هنا يدور حول أي دين كان: غير أني أود التذكير بآلية quot;القصاصات المتناثرةquot; (أعلاه) التي تجري على قدم وساق في وسائل البث والحث في العالم الغربي. وقد يفيد أن أوضح كيف يلعب كاتب يميني على اللغة لاطراء كاتبة يسارية من أجل استخلاص مادة تخدمه: فيذكر الكاتب ان السعداوي تعيش اليوم في الولايات المتحدة وتحت تهديد دائم من التنظيمات الاسلامية، وأنها قضت 3 أشهر في السجن في عهد السادات بسبب أفكارها حيث انها quot; انتقدت لمرات متكررة ارتداء الحجابquot;! هنا أترك الأمر للمعنية بالأمر نفسها، فالسعداوي التي نعرفها سجنت لمعارضتها اتفاقيات السادات مع إسرائيل والسعداوي التي تقدَّم للقارئ الغربي سجنت لأنها ضد الحجاب. لقد عرفنا لعقود من الزمن كاتبة معادية للقمع السياسي والاجتماعي والجنسي والديني، فيما الصحافة الغربية تقدم لقرائها كاتبة معادية للاسلام.

بعد مرحلة الفَلْترة التي جرت فيها تبرئة نوال السعداوي من اليسارية ومناهضة الهيمنة الأمريكية (بل هي تلوذ اليوم بأمريكا من الاسلاميين!) واختزالها الى مناوئة لما يعرف رمزياً بثقافة الشرق الأوسط، تصبح هي مستحقة بصفتها هذه لنيل جائزة نوبل، فتصل المقالة الى مبتغاها عندما ترشحها للجائزة. وحتى بعدما يورد الكاتب بنفسه ما قالته السعداوي عن جائزة نوبل، من أنها مسيّسة وأنها لن تمنح لها وذلك بسبب آرائها، فانه يحض على منحها لنوال إكراماً لقوة لغتها في نقد ثقافة مجتمعها.

شخصياً لا أعتقد ان نوال من النوع الذي يضعف في آخر الزمن أمام جائزة براقة في ظاهرها ثمينة في قيمتها المادية لكن فضائحها وامتطاء السياسة العالمية لها جعلتها سيئة السمعة!

السيدة نوال مدعوة الى مهرجان غوتنبرغ للكتاب في سبتمبر القادم. عليها أن تتوقع آنذاك الكثير من التبجيل الذي تستحقه بالطبع. غير أني أتمنى عليها أن تدقق أكثر في الكلمات التي ستقال، وفي الاتجاه الذي سيسير عليه هذا التبجيل وبذلك ستدرك، بذكائها الذي عرفناه لأكثر من جيل، إن كان يراد لها أن تكون شعلة للعدالة الاجتماعية والمساواة الجنسية، أو شاهدة على حقارة أمتها وظلامية دينها. وعندها ستعرف بنفسها الهوية الحقيقية للمبجِّلين!


[email protected]