من الواضح أن التفاخر بالديمقراطية العراقية، الذي دفع كثيرين إلى تسويد مئات وآلاف الصفحات على مواقع الانترنت ومنها موقع إيلاف واستعمالها وسيلة لإفتعال مواجهة وأداة استفزاز لانظمة عربية بعينها، هو في جوهره مسعى طائفي مموه. فالحملة التي تُشّن على مَن يوصفون بالعروبيين وما يُوصف بالفكر العروبي كما والهجوم الشامل على الانظمة العربية التي تلصق بها صفة طائفة معينة، لا يهدف إلى تطوير الديمقراطية أو اللبرالية بقدر ما يسعى الى طرح البديل الطائفي للفكر الوطني بل ويسعى إلى تفكيك هذا الاخير بوسائل مموهة بعناية.
تحتاج الديمقراطية الى الإطار الوطني وإلى الاستقرار والتطور الهادئ وليس إلى زعزعة الاستقرار عن طريق شق المجتمع الى طوائف.
سبق لنا أن قلنا أن بعض الممارسات الديمقراطية وتمظهراتها السياسية المتمثلة بصندوق الاقتراع قد فُرضت على القوى السياسية العراقية، وأن تاريخ هذه القوى السياسية لا يبرر الاعتقاد انها تؤمن بالديمقراطية كخيار حر، ذلك أن لها تاريخاً غيرَ مسرٍ من الصراع التكفيري الدموي وغير النبيل. ولكن القوى السياسية العراقية وأكثر من ذلك الشعب العراقي يتعلمون مبادئ الديمقرطية والحوار المتحضر اكثر واكثر، وهذا بحد ذاته ليس هينا ولا قليلَ الشأن ولكنه غير كافٍ لكي نصاب بنوبة من الحبور والمفاخرة بدلا عن التحليل العلمي العميق من اجل تأشير علاماتٍ على طريق التطور اللاحق.
كتبتُ في مقالٍ سابق أن رضا المثقف وتخليه عن واجبة التحليلي النقدي يعادل الكارثة، لانه يلغي التطور ويعتبر المنجز نهاية المطاف ولا يطرح أية مهمات لاحقة. إن المفاخرة المتعصبة الرافضة للنظرة النقدية والراضية كل الرضا عن المتحقق، تحل للاسف محل التحليل النقدي الذي يرى كامل الصورة بسلبياتها وايجابياتها. وفي هذا السياق كان الراحل كامل شياع قد كتب في دراسة مقدمة لمعهد الدرسات الستراتيجية: quot;ينبغي أن نضع في الحسبان أننا لسنا إزاء معركة أخيرة لو خسرناها لخسرنا كل شيء، ولو كسبناها لكسبنا العالم بأسره ! بل إزاء معركة طويلة الأمد على الحقيقة والعقل والعدالة الإجتماعية والحرية وكرامة الإنسانquot;.
فإلى أي مدى يمكن وصف الحالة العراقية بالديمقراطية؟ وما هي أضرار الوقوع في أحد الخطلين، التقليل أو المبالغة في شأنها؟
بالرغم من كونها انجازا غير قليل الشأن إلا أن الظاهرة العراقية لم ترقَ بعدُ إلى مستوى الديمقراطية. وبهذا الصدد تتعرض الديمقراطية إلى مخاطر شتى منها اعادة التعريف أو الاختزال من أجل جعلها تتطابق مع امثلة محلية بعينها تتعمد تقليص مداها كما والإلغاء المقصود لأصلها ومنشأها الأوربي لغرض نزعها من سياقاتها وتجاهل مستلزماتها الاجتماعية كالحريات العامة التي تهم الناس أكثر من صندوق الاقتراع.
فلا يمكن أن نعثر على فرد اوربي يقبل أن يتدخل أحدٌ في حريته الشخصية وينزعه إياها، ولكن من الشائع بين دول أوربا المتحضرة ان نجد ان خمسين بالمائة من هؤلاء لا يشارك في الانتخابات. ان المواطن الاوربي يعتبر الحرية الشخصية أهم من صندوق الاقتراع.
و لكن ما لدينا من مقالات مادحة تحاول أن تجعل صندوق الاقتراع بديلا عن الحريات الشخصية، فالمرأة الشاكية من التعسف المنزلي مثلا والتي تعيش في مجتمع ظلامي شبه إقطاعي لا يمكن لصندوق الاقتراع لوحده ان ينقذها. اذن فإن ما نحتاج إليه هو أن نجعل الديمقراطية تتغلغل في كل مناحي حياتنا وتشمل علاقاتنا الشخصية: علاقة الرئيس بالمرؤوس والعامل برب العمل وقائد الحزب بأعضاء حزبه والاب باولاده.. الخ. التشنجات الأخيرة التي اصابت الخاسرين والفائزين والتي اصابت كتابا جعلتهم يرفضون أية رؤية واقعية وأي نقد تبشر بأن الوصول إلى ضفة الديمقراطية وقبول الآخر ما زال بعيدا جدا.
لا خلاف في أن الديمقراطية السياسية وجوهرها الحق الانتخابي وآليتها التداولية هي عنصر جوهري من عناصرها، فلا ديمقراطية بدون التداول، أي بدون الآلية التي تؤدي إلى تغيير الحاكم. ولكن هذه الديمقراطية السياسية هي ليس كل الديمقراطية وانما تتويجها اللاحق. والديمقراطية بمعناها الأوسع اشمل بكثير من الحق الانتخابي والتداولية وحق الانتخاب، إنها تعني الحريات العامة والمجتمع المدني السليم.
و يشتمل تعبير المجتمع المدني على قواعد للتعامل بين مكونات المجتمع لا تمسها، أو ينبغي أن لا تمسها، السياسة بتغيير الحاكم. ولا تُجيز هذه القواعد حرمان شخصٍ ما من حقه المدني الطبيعي حتى لو كان معارضا للسلطات وللحاكم، ولا تجيز معاقبة المعارض السياسي بحرمانه من الامتيازات والحقوق التي يحصل عليها الموالي، ولا تجيز التردد في توظيف شخص ما أو منحه فرصة عمل استنادا لمعارضته لسلطة ما.
هذا الشكل من الحرمان من الحقوق المدنية ومكافئة المنتمي هو أكثر الخروقات للقواعد المدنية شيوعا في العراق وقد ازداد عما قبل وتعمق. فالتوظيف يتم عن طريق الولاء لجهة سياسية معينة ولا فرصة فيها للتكنوقراط ما لم يكونوا مدعومين من قبل حزب ما. فالتعيينات في دوائر الدولة وخصوصا في المواقع العليا والدرجات الخاصة والسلك الدبلوماسي والسفارات ومفوضية الانتخابات لا يتوفر على أي قدرٍ من الشفافية، وتسلك أجراءات التعيين مسالك سرية لا علم للمواطنين بها.
و حتى في كردستان فقد اشارت الاخبار إلى أن جماعة التغيير التي انشقت عن الاتحاد الوطني قد طالبت برفع العقوبات التي أدت إلى حرمان اعضائها من وظائفهم في المفاوضات التي جرت من اجل الاتفاق على تسمية مرشح موحد لرئاسة الجمهورية، هذا رغم أن التجربة الكردية يفترض ان تكون متقدمة مما هي عليه في بقية انحاء العراق حيث بدأت بعد فرض منطقة حضر الطيران في التسعينات. وتشير الاخبار إلى ان المراكز الوظيفية المهمة مرتبطة بالولاء السياسي اكثر من ارتباطها بالكفاءة المهنية.
يفترض أن لا يتناقض دور رجال الدين مع الديمقراطية، ولكن دورا أكبر من الاطار الديني لرجال الدين وتبعية مطلقة للرعية ومنطق الإملاء الذي يلزمها بمواقف معينة، يتناقض مع الديمقراطية. ومهما بلغت حكمة رجال الدين فإنها ينبغي أن لا تكون بديلا عن صوت المواطن الحر الواعي. ان تربية الناس على أن تأخذ مصيرها بيديها وتؤسس لموقفٍ واعٍ مستقل هو صمام الأمان وضمانة الديمقراطية وليس شيئا آخر كما يبشر بعض الكتاب.
و من الأشكال المطروحة لتفريغ الديمقراطية من محتواها هو حكم الأوليغارشية أي حكم الأقلية. وهذه الاقلية التي تمثل طائفة ما مثلا، لا تتخلى عن السلطة عمليا ولكنها تسمح بتغيير الوجوه والأسماء ضمن اطار نفس المجموعة دون تغيير سياسي واجتماعي حاسم، أو أن يُصار فيها إلى جعل السلطة والقرارات الحاسمة وقيادة القوات المسلحة الضاربة بيد جهة غير منتخبة مثل رجل دين أو غيره.
و تعتبر أمراض الفساد وعدم احترام المممتلكات العامة من أهم الامراض الشائعة والقاتلة في العراق والذي لم يفلح صندوق الاقتراع في تقليصها. بل أن شلل الاجراءات العقابية أو تعطلها الكامل بسبب المحاصصة قد بلغ مدىً اكبر مما عليه ضمن انظمة سياسية تفرض عقوبات قاسية وفورية. والمحاصصة لا يمكن لها أن تكون وسيلة لتأسيس ديمقراطية حقيقية فهي تجرد الطرف المنتخب من حقه في القيادة ومن قوة السلطة وتحيله إلى مجموعة من مساعي الترضيات كما لا حظنا من تجربة الحكم السابقة وكما نلاحظ الآن في عملية التحضير للحكومة المقبلة بما تتضمنه من مغازلات على حساب القانون.
نشأت الديمقراطية السياسية وصندوق الاقتراع وتطورا في اوربا على قاعدة الفرد الحر دافع الضريبة، حيث لا يوجد لدى الدولة تمويل سوى الضرائب التي تستحصلها من مواطنيها بما يجعلها مفوضة منهم باستخدامها لاجل الصالح العام. ولذا يشعر المواطن الاوربي بأن الممتلكات العامة تعود له وليست ملكا للدولة ويعمل على المحافظة عليها. وفي كل مرة يدفع المواطن الأوربي الضريبة يشعر أن الحكومة موجودة بتفويض وتمويل منه.
يشعر المواطن لدينا بأن الممتلكات العامة هي ملك الدولة، وبما أن الدولة هي عدوه اللدود فإن طريقة الانتقام منها تقوم على تخريب أو سرقة الممتلكات العامة ولا يلاحظ المواطن انه بهذا انما يسرق نفسه. ولا يكترث المواطن لخراب الشارع والمدرسة ويقوم ببناء بيت كبير مرصع بالمرمر من سرقات المال العام ( مكتوب عليه في الغالب: هذا من فضل ربي ) المكرسة للشارع والحديقة والمدرسة ولا يرى أن سعادته يجب ان تكون جزءا من سعادة المجتمع ونجاحة مرتبطا بالنجاح العام ودوران عجلة الاقتصاد.
في مجتمعاتنا تستولي الدولة على ثروات باطن الارض والمفاصل الرئيسية في انتاج الثروات ولا تجبي الضرائب أو انها تجبي ضرائب رمزية ولكن الدولة موجودة ايضا بتفويض من المواطن الذي خولها باستغلال الثروات باسمه. لكن هذه الحقيقة تُغّرب عن المواطن ويُجعل من كل انجاز يقوم به الحاكم مكرمة جاد بها على العامة.