المناوشات التي حدثت وستحدث بين اليونيفيل وأهالي حزب الله في جنوب لبنان ليست جديدة كل الجدة على اللبنانيين ولا على القوات الدولية. في النسخة السابقة لقوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان، التي اوكل إليها مراقبة تنفيذ القرار الدولي 425، حدثت مثل هذه المناوشات وأكثر منها. بل شهدت تلك الفترة عمليات فدائية استهدفت قوات اليونيفيل رداً على ما كانت تعتبره القوات المشتركة اللبنانية ndash; الفلسطينية استهدافاً مباشراً لها. في النتيجة وقعت قوات اليونفيل يومذاك بين حدي نارين، يشبهان الحدين اللذين تقع بينهما اليوم من كل الجهات. ذلك ان القرار 425 الذي صدر إثر الاجتياح الإسرائيلي لجنوب الليطاني عام 1978، كان قراراً دولياً ترعاه السلطة اللبنانية الرسمية وتحض عليه. لكن القوى السياسية اللبنانية المتصارعة، والتي كانت يومذاك، مثلما هي اليوم اقوى من السلطة الرسمية نفسها لم تعتبر ذلك القرار فضلاً نهائياً من فصول الحرب المستمرة ضد إسرائيل. وإسرائيل من جهتها ايضاً لم تكن تعتبر وقف النار او تنظيم المواجهات بموجب هذا القرار محصلة نهائية تريد تثبيتها والإبقاء عليها. إسرائيل كانت تعد العدة لاجتياح العام 1982، والذي سبقه آنذاك اجتياح ناقص ونصف هزيمة إسرائيلية، في تموز - يوليو العام 1981، وما اصطلح على تسميته يومذاك حرب الجسور. والقوات اللبنانية ndash; الفلسطينية المشتركة كانت تستعد من جهتها لمثل تلك الحرب.
اليوم يبدو الطرفان في الموقع نفسه مرة أخرى. إذ ما ان انتهت حرب تموز - يوليو 2006 حتى اعلن الطرفان، بطرق مختلفة ومتغيرة، ان هذه المعركة ليست اكثر من محطة من محطات الحرب بين الطرفين. إسرائيل من جهتها بدأت انقلابها على القرار 1701 منذ اللحظة الأولى التي تم فيها صدور هذا القرار. فلم تكف طائراتها عن التحليق في الأجواء اللبنانية، منتهكة القرار برمته، وما زالت حتى اليوم تماطل في تنفيذ ما يطالبها به هذا القرار صراحة، لجهة الانسحاب من الجزء الشمالي من قرية الغجر اللبنانية على ما جاء في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الأخير. في النتيجة ليس ثمة شك في أن الطرفان يعدان العدة لحرب ستقع آجلاً، وكل طرف من جهته يحاول تفريغ القرار الدولي من المضامين التي تعيق استعداداته هذه.
لهذا يلح حزب الله ومناصروه في تلك القرى على تقييد حرية حركة هذه القوات في داخل القرى، ذلك ان القوة الضاربة لحزب الله في قرى جنوب الليطاني باتت مزروعة في دواخل الأحياء السكنية، باعتبار ان قوات الحزب العسكرية في تلك المنطقة تتشكل اولاً وآخراً من ابناء هذه القرى، وتالياً هم يستعدون للمقاومة من بيوتهم. ويمكن القول انه نجح في مسعاه هذا إلى حد كبير. على أي حال لن تستطيع قوات الأمم المتحدة ان تمنع مثل هذه الاستعدادات على اي وجه من الوجوه. والحال، يستخدم حزب الله ما يستطيع استخدامه من موارد متاحة استعداداً لمعركته المقبلة، في حين ان خصمه يستعد من دون اي رادع من اي نوع.
نتيجة هذا السباق المحموم في الاستعدادات من الجانبين واضحة تماماً: تعطيل مهة اليونيفيل على نحو شبه تام، وتفريغ القرار الدولي 1701 من مضامينه كافة، بصرف النظر عن التصريحات التي يطلقها مسؤولو حزب الله التي تفيد تمسكهم بهذا القرار. ذلك ان هذا القرار ولد يتيماً اصلاً. بوصفه يرعى حق الدولة اللبنانية في السيادة التامة على الأراضي اللبنانية واحتكار السلاح اللبناني بيدها. وهي التي لم تكن طرفاً مباشراً في الحروب السابقة، وإن كانت في نهاية المطاف ضحية من ضحاياها.
في حرب تموز 2006، على الجهة اللبنانية كان ثمة طرفان يتأثران بهذه الحرب. الدولة اللبنانية كسلطة معنوية مسؤولة عن مجموع الشعب اللبناني بكل طوائفه ومناطقه وفئاته، وحزب الله المقاوم. وكان من حظ الدولة اللبنانية ان تتلقى النيران الإسرائيلية وتحترق بها، ومن حظ حزب الله ان يقاوم ويناوش. مما جعل نتيجة تلك الحرب مرصودة وملغزة. ذلك ان إسرائيل انتصرت وهزمت في تلك الحرب. انتصرت على الدولة اللبنانية من دون شك، لكنها هزمت امام مقاومة حزب الله. وكان من نتيجة تلك الحرب ان خرج منها خاسر هو الدولة اللبنانية ورابح هو حزب الله.
انتصرت إسرائيل على الدولة اللبنانية في تلك الحرب. لكن ما يؤسف له حقاً ان حزب الله نفسه هو الذي اجهز عليها. اليوم ثمة أهالي في جنوب لبنان يمثلهم حزب الله في اجتماعات التنسيق بين القوات الدولية والجيش اللبناني وحزب الله، اما الجيش اللبناني فحاله مثل حال القوات الدولية محشور بين طرفين يستعدان للحرب، وحين تنشب هذه الحرب سيكتشف اللبنانيون ان جيشهم يشبه في دوره وإمكاناته قوات اليونيفيل التي ستتتفرج على الحرائق المشتعلة على جانبي الحدود.