أن تعتبر نفسك ممثلا عن خير أمة أخرجت للناس و تتفاوض وفق ذلك الاعتبار، فإن موقفك قطعا سيکون صعبا في عملية التفاوض، مثلما الامر نفسه لمن يرى نفسه ممثلا و معبرا عن شعب أختاره الله من دون کل شعوب العالم ليکون شعبه الخاص، طرفان کل منهما يحمل أرثا دينيا عقائديا مضمخا بتأريخ متباين و متداخل ملئ بکل أنواع و أشکال الرفض و الاقصاء للآخر، عندما يجلسان في واشنطن برعاية أمريکيـة من أجل تحقيق عملية السلام او على الاقل تأهيل الارضية المناسبة لها، فإن کل تلك التناقضات و أشکال و صيغ و مضامين الصراع و ماأليه تطرح نفسها بقوة في وجدان کل مفاوض.

الرئيس محمود عباس، ذلك المناضل الذي قضى الشطر الاکبر من حياته مکافحا و مقاتلا من أجل قضية شعبه الفلسطيني العادلة، يجلس الى طاولة السلام و هو يحمل هموما و معاناة کبيرة في داخله سبق وان تلوع و عانى الرئيس الراحل ياسر عرفات الامرين منها، عباس، رجل يفاوض عدوه اللدود وهو يأمل أن يوفق في تفاوضه الصعب هذا في إرضاء شعبه الفلسطيني اولا، و أمتيه العربية و الاسلامية ثانيا، و المجتمع الدولي ثالثا، وهو يدرك أن عملية الارضاء هذه هي بالغة الصعوبة و التعقيد بل وتکاد أن ترقى الى المستحيل، لکن أبو ماازن الذي عرف عنه لجمعه لخصلتين مهمتين وهما مراسه الصعب و لين عريکته، قد يکون فعلا أهلا لهکذا مهمة وقد ينجز تقدما و تطويرا لعملية السلام بينه و بين غريمه رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو. ان منطق الارض مقابل السلام الذي تتبعه اسرائيل وتطبقه على أرض الواقع باسلوب في منتهى الصرامة، ليس من السهولة الاستهانة به کما أنه ليس من الممکن أيضا في نفس الوقت التعويل عليه واعتباره المخرج و الطريقة الوحيدة لحث العرب و الفلسطينيين على السلام، ذلك أن الصبغة الدينية الاساسية للموقف الاسرائيلي و رد الفعل العربي و الاسلامي المبني أيضا على أساس ديني لکن من دون تفعيله او جعل مضمونه الحقيقي کذلك، سيبقى عائقا حقيقيا و کبيرا بوجه عملية السلام و ستمنعه من التقدم ولو بوصة واحدة للأمام على أرض الواقع وان التنازل المٶلم الذي يتحدث عنه رئيس الوزراء الاسرائيلي يجب أن يکون في الواقع على هذا المسار، أي تخفيف و تشذيب الخطاب السياسي ذو الطابع الديني للجانبين حيث أنه ومن دون ذلك لن يکون هناك سلام حقيقي ولو بعد مائة عام.

ان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو المحسوب على صقور الدولة العبرية، عندما يتحدث عن(تنازلات مٶلمة) يجب أن يقدمها الجانبان من أجل تحقيق السلام، فهو يعلم يقينا بأن مهمة صاحبه أصعب بکثير من مهمته، أن أبو مازن في عملية التفاوض الصعبة المعقدة هذه، يکاد أن يکون أبو موسى الاشعري فيما يمثل نتنياهو داهية العرب عمرو بن العاص في عملية التحکيم الشهيرة التي أنتهت بالضحك على ذقن الاشعري، غير أن أشعري الالفية الثالثة من بعد الميلاد، يدرك جليا بأن مفاوضه الذي (يروغ عنه کما يروغ الثعلب)، يبتغي أن ينتزع منه أهم شئ مقابل شئ ثانوي او على الاقل غير ذي أهمية قبالة ماقدمه، وقطعا فإن الرئيس عباس يعلم جيدا بأن نتنياهو مدفوع اساسا للمفاوضات لأنه متيقن من أن نأي اسرائيل بنفسها عن المفاوضات الجادة لإحلال السلام في الشرق الاوسط سوف يکلفها الکثير خصوصا وان راعية اسرائيل الاساسية(الولايات المتحدة الامريکية)، قد باتت هي الاخرى تأن من وطأة الدعم المفرط الذي تقدمه لدولة تشق حياتها بصعوبة بين جيران رافضين لها جملة و تفصيلا وانهاquot;أي واشنطنquot; لم تعد ترحب او تتفهم المزيد من العنت و التصلب الاسرائيلي قبالة المطاليب الفلسطينية العادلة وتتمنى رٶية صورة متباينة و جديدة للمفاوض الاسرائيلي مع غريمه الفلسطيني، ومن هنا فإن عباس لن تفوته مطلقا توظيف هذه النقطة الحساسة في عملية التفاوض، ويبدو واضحا جدا أن نتنياهو لم يجدمناصا من نزع قناع تعنته و رفضه و تشدده و الجلوس مرغما الى طاولة السلام رغم أنه مازال يتمتع و يحظى بدعم أکبر مقابل خصمه الذي يعاني الامرين على مختلف الاصعدة بل وانه لايحسد مطلقا على موقفه الاضعف من هذه الناحية، لکنهquot;أي الرئيس عباسquot;، وفي نفس الوقت ليس بذلك المفاوض السهل الذي يمکن أن يرضخ و بدافع من خصوصية وضعه الى مطاليب خصمه من دون أن ينتزع منه شيئا ملموسا و مهما يقدمه لشعبه الذي عانى و يعاني الامرين منذ عدة عقود، وليس من المستبعد فيما لو بقى نتنياهو مصرا على تعنته أن يٶسس الرئيس محمود عباس لموقف جديد من مجمل عملية السلام، موقف ترجع الامور فيها للشعب الفلسطيني ذاته، وهو أمر يجب على الاسرائيليين أن يحذروا منه سيما في الجولات اللاحقة لهذه المفاوضات وان فقدانهم لکف أبو مازن الممدودة إليهم ستمثل کارثة في المستقبل المنظور إذ أنها ستساعد ومن دون شك على إذکاء و تسعير تيار التطرف في الطرف العربي الاسلامي، وان الاسرائيليين يجب أن يقرأوا و بدقة متناهية ماحصل لهم مع الاتراك في اسطول السلام و إنعکاساته في العمق الترکي و تأثيراتها القوية على مختلف الدول الاسلامية، لکن، في المقابل، على العرب و المسلمين أن يقدموا دعما واقعيا و ملموسا على الارض لعباس وان لايکتفوا بالدعمquot;النظريquot;وquot;الاعلاميquot; کي يکون عباس حقا ممثلا لخير أمة أخرجت للناس في مقابل ممثل شعب الله الله المختار، ولاسيما وان نتنياهو مازال يحظى بدعم أکبر و اقوى و اوضح من جانب حلفائه وحتى شعبه، في مقابل عباس الذي يجابه موقفا صعبا من جانب شعبه يتجسد في حالة الانشقاق و التبعثر التي تعکس ظلالها السلبية عليه، مثلما مازال يفتقر الى دعم استراتيجي من جانب العرب و المسلمين وهو امر من المفروض جدا على الزعماء العرب و المسلمين الانتباه له قبل أن يفلت زمام الامور من إيديهم ويصل الى يد من لايفهم سوى لغة العنف و الدم و الارهاب، وان أبو مازن يمثل الخيار الخطر الذي يجب المراهنة عليه و دعمه قبل أن تقع الفأس في الرأس!