المقاولة من المفاهيم الأكثر تداولا في الحقل الاقتصادي وبشكل مميز، إلا أن علم الاجتماع حاول تقديم مقاربة لهذا المفهوم تتجاوز ذلك البعد الاقتصادي التقني انطلاقا من سوسيولوجيا التنظيمات وصولا إلى سوسيولوجيا المقاولات.

إن سوسيولوجيا التنظيمات حاولت فهم وتحليل علاقة السلطة والتبعية واستراتيجية الفاعلين التي تشكلت على خلفية هذه العلاقات وعلى أساس مناطق الظل Zones-drsquo;incertitude التي لم يتمكن النسق التنظيمي أن يشملها، هذا التصور تم تعميقه لاحقا من قبل سوسيولوجيا المقاولات Sociologie des entreprises، التي اعتبرت المقاولة على أنها كيان اجتماعي قبل أن يكون اقتصادي منتج لكيانات اجتماعية تتحكم فيه روابط اجتماعية ويوجد فيها فاعلون بمثابة أعضاء يتماهون في هذه المقاولة الاجتماعية التي تشكل مجموعة انتماء بالنسبة إليهم، كما أن هذا الكيان الذي يكونها، منتج للثقافة التي تعبر عن قدرته على الفعل والعمل الجماعي والذي يهدف إلى تحقيق الهدف المشترك والتغلب على الإشكالات التي تواجهه، ومن تم إيجاد الحلول المناسبة. ويقول Bernoux بصدد ذلك: المقاولة هي مكان مستقل(نسبيا عن المحيط والمجتمع) منتج للضوابط التي تحكم العلاقات الاجتماعية، هذه الضوابط هي التي تشكل نقطة ارتكاز في التحليل الاستراتيجي للفعل الجماعي عند M.Crozier، لكن المقاولة أصبحت الآن مكانا تنشأ وتتشكل فيه الهوية والثقافة والاتفاقات الاجتماعية التي لا يمكن أن تكون لو لم يكن هناك حد أدنى من الثقة المبنية على التصور الجماعي والخيال المشترك.

إن سوسيولوجيا المقاولات تجاوزت ذلك الطرح الذي يعتبر أن المقاولة وحدة اقتصادية تتوقف نجاعتها على مدى قدرتها على تقسيم العمل وتوزيع المهام الجزئية على الفاعلين كما ترى التايلورية، ولا على قدرة أعضاءها على خلق قواعد تضبط استراتيجياتهم وتوجهها حسب Crozier بل على مدى قدرتها أن تكون Institution sociale مؤسسة اجتماعية ناتجة للهوية الاجتماعية ومنتجة لثقافة تجعل من أعضاءها يشعرون بالانتماء إليها وليست مجرد إطار إداري يتم الانتساب إليه. إذ أن نجاعة المقاولة أصبح يحكمها مستوى التشكل الاجتماعي وليس القدرة على تجزئته كما هو الحال في التنظيم العلمي للعمل O.S.T 1.

إن المقاولة بالنسبة لعلماء الاجتماع حسب R.Sainsaulieu كما جاء في كتابه: quot;Lrsquo;Entreprise crsquo;est une affaire de socieacute;teacute;quot; ليست مجرد نصوص وقواعد قانونية، وليست كذلك نماذج وهياكل رسمية، بل إنها تتشكل من روابط اجتماعية معقدة وأصلية، فالمقاولة تمتلك تاريخها الخاص الذي يكونه الفاعلون الاجتماعيون كرد فعل على الإشكالات الداخلية والخارجية المطروحة عليها.

إن المقاولة ليست مرآة عاكسة لمحيطها لدرجة أنها تصبح مجرد إطار لثقافة هذا المحيط، بل إن للمقاولة كيانها الخاص بما يحكم الممارسات الفردية والجماعية وبتفاعل معها ويؤثر فيه. ولذا عندما نتكلم عن ثقافة المقاولة فإننا لا نتكلم على ثقافة المجتمع في المؤسسات بل نتكلم على ثقافة المقاولة كنتاج للكيان الاجتماعي المتفاعل داخلها وبصفتها منظمة تتميز بالاستقلالية النسبية عن المحيط المتواجد فيه، فكل التعاريف التي تناولت موضوع ثقافة المقاولة بالبحث والدراسة متفقة على هذه النقطة الأساسية والجوهرية 2.

غير أن ما يمكن ملاحظته بخصوص الأدبيات المنشورة حول المقاولة منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي، هو أن السبب الرئيسي الذي جعل هذه الأدبيات تهتم بالعامل الثقافي لم يكن هو المنظور السوسيولوجي للتحديث كتغيير شامل في بنية المجتمع وفي مؤسساته وثقافته وسلوكات أفراده، وفي العلاقات الاجتماعية القائمة فيه. لقد كان الاهتمام بالمقاولة وتطورها يدخل أساسا في نطاق البحث عن الأسباب والعوامل التي تفسر التفوق الذي حققته المقاولة اليابانية في المجال الصناعي بالمقارنة مع نظيراتها الأمريكية والأوربية. فلقد كانت الأسواق الغربية تواجه الغزو الياباني، وكان يتعين على الباحثين والخبراء البحث عن البديل للنظريات التقليدية العاجزة عن تفسير التجديد الذي حققته المقاولات اليابانية على المستوى التنظيمي، والذي كان يبدو أنه نابع من خصائص المجتمع الياباني وثقافته 3. لكن تناول المقاولة من خلال العلاقة بين المتغيرات الثقافية وفعالية التنظيم وطرق اشتغاله وانعكاس ذلك على التميز والنجاح بالنسبة للمقاولة يبقى في عمقه تحليلا سوسيولوجيا.

وإذا كانت تعاريف هذا المفهوم تتميز بالاختلاف من مدرسة إلى أخرى، ومن تيار لآخر داخل سوسيولوجيا التنظيمات والمقاولات، فإن هناك اتفاق كما جاء في كتاب M.Theacute;venet، quot;La Culture drsquo;Entreprisequot; على اعتبار أن المقاولة وحدة اجتماعية منتجة لقواعد وعادات ومعتقدات وتمثلات مشتركة بين الأفراد المكونة لهذه الوحدة، وتميزهم عن وحدات اجتماعية أخرى، فالثقافة من خلال هذا المعنى هي بمثابة اللحمة التي تضم التنظيم والأساس الحيوي لديناميته، وموردا جديدا للتنافسية.

يعتبر تعريف E.H.Shein لثقافة المقاولة أكثر التعاريف انتشارا وتداولا ويعرفها بـ: quot;البنية التي تتشكل من المسلمات الأساسية التي تبتكرها، تكتشفها أو تصوغها مجموعة معينة عندما تتعلم كيف تواجه مشاكل التكيف الخارجي والاندماج الداخلي، وهي مسلمات أدت دورها بشكل جيد لدرجة اعتبرت معها كشيء صالح أو كشيء يلقن للأعضاء بوضعه طريقة صحيحة في الإدراك والتفكير والإحساس في التعامل مع تلك المشاكلquot; 4.

ويعرفها سامي فياض العزاوي بأنها: quot;مجموعة المعتقدات الخفية والظاهرة من الطقوس والشعائر والرموز التي يعتنقها المشاركون، التي يكون لها دور أساسي في كيفية ممارسة تلك الشعائر والطقوس واللغة والروتين والمنافسة ودرجة قبولهم لقادتهم ومديريهم ودرجة مشاركتهم مع قيم المنظمة وقيم العمل والجودةquot;5.

كما نجد تعريف لإ ليوجاك E.Jacques لثقافة المقاولة حيث اعتبرها: quot;طريقة التفكير والسلوك الاعتيادي والتقليدي وتتميز بتقاسمها واشتراكها بين أعضاء التنظيم وتعلم تدريجيا للأعضاء الجدد بهدف قبولهم في المقاولةquot; 6.

وقد قارن عالم الاجتماع R.Sainsaulieu مفهوم ثقافة المقاولة في كتابه quot;Meacute;thodes pour une sociologie drsquo;entreprisequot; وذلك من خلال ثلاث مستويات:

- المستوى الأول: ومن خلاله تناول Sainsaulieu ما سماه quot;طرق العيشquot; الخاصة بالفاعلين داخل المقاولة سواء في علاقة مع باقي الفاعلين في المقاولة أو مع العمل نفسه، أي المهنة والتقنية... وبالتالي فإن هناك ثقافة خاصة كموارد لحياة جماعية وانسجام واندماج اجتماعي للمقاولة وتحقيق أهدافها.

- المستوى الثاني: وخلاله أهتم Sainsaulieu بثقافة المقاولة، وأكثر تحديدا quot;الثقافة الخاصةquot; للمقاولة من خلال ذلك الدور الذي يجب أن تلعبه في تحقيق أهداف المقاولة، أي البحث عن مختلف معايير السلوكات والتصورات والقيم التي تنتج سلوكات جماعية تمكننا من اتخاذ المخاطر والمسؤوليات في مختلف مستوياتها التجارية، التقنية، التسييرية والاجتماعية المميزة للمقاولة العصرية، أي مدى امتلاك كل فاعلي المقاولة للروحوالقدرات المادية والنموذجية لتوقيع ومواجهة المخاطر.

- المستوى الثالث: هذا المستوى ثم تناوله من خلال تقاطع الثقافة الخاصة للمقاولة مع ثقافة المجتمع بشكل عام. وهنا تطرح مسألة مواجهة الثقافة الخاصة بالمقاولة مع ثقافة المجتمع وبالتالي فإن المقاولة تكون بمثابة فضاء للتجاذب والبحث عن توافقات مختلفة.

إن R.Sainsaulieu من خلال تناوله لثقافة المقاولة، يعتبر أن ثقافة المقاولة هي ما يؤسس لخصوصيتها، أي أنها موجودة في الثقافة السائدة بين مختلف فاعلين المقاولة من جهة، كما أن الثقافة هي بمثابة لحمة وروابط للفاعلين وهذا ما يفسر تفوق المقاولات اليابانية بانسجام وتلاحم أفرادها من جهة أخرى. إن ثقافة المقاولة هنا، تصبح أكثر فعالية من الجانب الرسمي داخل المقاولة وما يتضمنه من قوانين وقواعد.

لقد تميز مفهوم ثقافة المقاولة بتعدد تعاريفه واختلافها على اعتبار أن هناك تداخل لمجموعة من العلوم التي تناولته بالمقاربة والتحليل، وبالتالي فإن ذلك يظهر تعقيد ما يسمى quot;ثقافة المقاولةquot; وهذا ما أكدته الأبحاث السوسيولوجية والانتربولوجية، حيث أنها ليست مجرد نتيجة المنظومة التنظيمية، بل أنها في نفس الوقت انعكاس للثقافة المحيطة وإنتاج جديد يتكون في كنف المؤسسة عبر عدة ردود فعل توجد على كل المستويات بين أولائك الذين ينتمون إلى التنظيم نفسه، وإذا كان من نافلة القول أن الحديث عن ثقافة المؤسسة بالمعنى الانتربولوجي لكلمة quot;ثقافةquot; فذلك للإشارة إلى النتيجة المعقدة، في وقت معين من عملية البناء الثقافي غير المتنهي أبدا، معرضا للخطر مجموعات من الممثلين والعناصر المتنوعة، دون أن نشير إلى أنه مجموعة وحيدة هي التي تقود اللعبة 7.

الهوامش والإحالات:

1- بن عيسى محمد المهدي، ثقافة المؤسسة، دراسة ميدانية للمؤسسة للاقتصادية للعمومية في الجزائر، رسالة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، جامعة الجزائر، 2004-2005، ص 232-233.

2- بن عيسى محمد المهدي، نفس المرجع، ص 143.

3- لحبيب امعمري، للمقاولة والثقافة، دراسة في عملية التحديث بالمغرب، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، 2006-2007، القسم الثالث، العلاقة بين التنظيم والتغيير على ضوء المعطى الثقافي، الفصل التاسع، التنظيم والثقافة، براديغهم الثقافة التنظيمية ،ص 209.

4- لحبيب امعمري، نفس المرجع، الفصل التاسع، التنظيم والثقافة ص 221.

5- سامي فياض العزاوي، نفس المرجع، ص 69.

6- Gilles Bressy et et Christain kankoyt, Economie drsquo;entreprise, 4 Edition, Dalloz, Paris 98P: 513 .

7- دوني الكوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة قاسم المقداد، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2002ص 122.

باحث في علم الاجتماع المقاولات