لم تكن المصالح السياسية التي إستجدّت إثر سقوط النظام الديكتاتوري تقتضي إجراء قطيعة حقيقية مع الماضي ومفاهيمه وتقويض الأسس القديمة التي نهض عليها الإستبداد والتفرّد والطغيان لكي يبدأ التجديد والإصلاح الذاتي للنظام السياسي والإجتماعي عمليا، وتشرع عملية المراجعة الفكرية العميقة للمرحلة السابقة ودراسة أسبابها وإستيعاب آثارها على مستوى الأفراد والجماعات وقطع الطريق في التفكير والعمل على عودة الماضي الذي من شأنه أن يقاوم بقوّة وبشتى الطرق والأساليب ويتحين الفرص لإعادة وتثبيت جوهر النظام القديم وما كان يمثله من منظومات قيم ومفاهيم وإعتبارات كثيرة، تمهيدا لإعادة إنتاجه، وتبريرا لمشروعيته على ضوء العجز الراهن إزاء تحدّيات الحاضر، بل وعلى العكس، إقتضت تلك المصالح وبضغوط وإملاءات خارجية عديدة، إدماج الكثيرين من رموز النظام السابق في العملية السياسية، وإلحاقهم كأفراد، في صفوف الأحزاب السياسية المتنفذة، تارة بإسم المصالحة الوطنية والتوافق السياسي، وتارة أخرى بإسم التوبة والعفو والغفران أو طلب البراءة. وبدون أدنى شكّ، كانت هذه المعالجة القائمة على الإرتجال والعشوائية والسطحية، في التعامل السياسي مع البعثيين، وعلى الكثير من التمييع المقصود، لأخطر ظاهرة سياسية في تاريخ العراق الحديث، وما إرتبط بها من قيم وأفكار وسلوكيات لم تزل البيئة السياسية الجديدة وطبيعة العلاقات السائدة بين أقطابها، توفر لها الإمكانيات الكبيرة للظهور والنمو والإنتعاش من خلال تغذيتها بوعي أو بدونه، بكلّ أسباب الحياة والنشاط والإستمرار.

وما كان للتوازنات والمصالح الجديدة أن تتصالح وإن مؤقتا، نتيجة الضغوط الإقليمية والدولية فحسب، وإنّما كانت ناجمة أيضا عن الحاجة والطلب الداخليquot;للخبراتquot; البعثية في مجال الفساد المالي والإداري في أجهزة الدولة ومؤسسات الإدارة العامّة التي كانت ولا زالت تسير معظمها وفقا للقوانين واللوائح القانونية للنظام السابق، كما كان إلتقاء تلك المصالح مع أعداء الأمس يقتضي إستبعاد مئات الألوف من الكفاءات العراقية الحقيقية في المهجر من الذين قارعوا الديكتاتورية عقودا طوال، من المساهمة في عملية البناء والنهوض للنظام الجديد وإرساء الأسس الصحيحة لدولة ديمقراطية تعددية، مثلما كان يبدو الولاء البعثي للقوى السياسية المتنفذة التي إحتضنتهم في صفوفها، ولاءا نهائيا أو شرّا لا بدّ منه في أحسن الأحوال، متناسين قدرتهم على التلوّن وتبديل الولاءات الذي جبلوا عليه، وأثبتت التجارب تلك القدرة في الهدم والتخريب لا في البناء والإعمار.

وحالما تلاقفت القوى القديمة الإشارات الواضحة لطبيعة النظام الطائفي المزمع إرساءه في العراق، وإتضحت معالمه أكثر فأكثر بمرور الوقت، وتيقنت بأنّ لا ثمّة ديمقراطية حقيقية في الأمر ولا هم يحزنون، وإنّما هنالك خريطة مرسومة لتوزيع القوّة والنفوذ وتقاسم الثروات، تتطلب بالنتيجة، تجميد الأوضاع الداخلية وشلّ فاعليته، وإخراج البلاد تماما من دائرة الفعل والتأثير في محيطه الإقليمي، وتستدعي قواعد هذه اللعبة السياسية الجديدة حضورهم الفعّال والمتميز والمطلوب إقليميا ودوليا، عادت لتتجمع وتعرض خدماتها لأصحاب القرار الدولي بعد أن ظنت قوى الإسلام السياسي بأنّ تلك الجماعات والأفراد، سوف لن تترسب كحبّات الملح في القاع الإجتماعي والسياسي نتيجة ركود الأوضاع والتردد والسعي الى الإرتداد.

وفي الواقع، ليس بمقدور البعثيين ولا غيرهم، القيام بإنقلاب أبيض أوأسود والإنقضاض على العملية السياسية كما تدّعي الرواية الرسمية، فلم تعد المستجدات السياسية الراهنة وكثرة اعداد المليشيات والأسلحة المنتشرة في ارجاء البلاد تسمح بذلك، ولا التغييرات الديمغرافية التي طرأت على المدن والمناطق والبنى الإجتماعية فيها توفر لكائن من كان، السيطرة عليها بمجرد سقوط العاصمة بغداد في يد الإنقلابيين كما كان في السابق، ولكنّ الأمر لا يعدو في حالاته القصوى، سوى التلويح المستمرّ بالخطر الجاثم والمتربص دائما، حقيقيا كان أم وهما، من طرف القوى السياسية الحاكمة من ناحية، والمساهمة في العرقلة والإنسداد السياسي وتجديده وتمديده ما أمكن، من طرف الشركاء السياسيين والطابور الخامس في صفوف الإسلام السياسي ذاته، من جهة أخرى.

وإذا كانت فصول المتاهة السياسية الحالية، قد صممت إقتباسا من صخرة quot;سيزيفquot; الشهيرة بحيث لا يمكن الوصول أبدا الى خاتمتها والعثور على مخرج مناسب لها، فإنّ عبث الأقدار التي جمعت أولئك وهؤلاء على مائدة سياسية واحدة وجها لوجه، وساقتهم جميعا الى مواقع المسؤولية والقرار، لن تستمرّ وتنجح الى الأبد على أرضية الأفتراس المتبادل واللامبالاة الباردة والسحيقة كعيون الضواري والوحوش.