واحدة من أهم العقد الخلافية بين مختلف التيارات السياسية التي تبنت معارضة الأنظمة الدكتاتورية ومقاومتها بأي شكل من الأشكال، هي الزعامة وقيادة الوضع الجديد الذي أصبح شاغرا بعد سقوط تلك الأصنام، فطيلة سنوات كارثية من حكم تلك الأنظمة الشمولية التي أشاعت وكرست ثقافة عبودية الفرد، واستخدمت ووظفت سلوكيات متوارثة من فلكلور القبيلة والبداوة البائس الذي ما زال يفعل فعلته في تنمية الاستكانة والخنوع لمفهوم الشيخ والأغا ومن ثم الزعيم والرئيس المطلق؟
حيث تواجه معظم الحركات والفعاليات السياسية التي يفترض ان تكون بديلة لتلك الأنظمة مشكلة الرغبة الشديدة في الزعامة، وربما صدى موروثات متكلسة في الداخل الباطني لبنائها النفسي، نتيجة تلك التربية والسلوك الدكتاتوري والنرجسي في قيادة الدولة والمجتمع لعقود طويلة، من قبل أنظمة شمولية ادلجة كل مناحي الحياة ومؤسساتها التربوية والتعليمية، وأنتجت أجيالا من الشباب الذين ولدوا مع تسلط تلك الأنظمة على الدولة والمجتمع، منذ ما يقرب من نصف قرن، تريد ان تستنسخ في عقلها الباطني ذات الغول الذي حكمها طيلة عقود!؟
وإذا ما حسبنا سنوات حكم الانقلابيين البعثيين في كل من سوريا والعراق التي تقترب من أربعين عاما، وما فعلته في مناهج التربية والتعليم وإعادة كتابة التاريخ بما يروق لها، وما تركته من آثار بالغة في الإعلام الموجه تلفزيونيا وإذاعيا من خلال قنوات محددة وموجهة دونما السماح لأي وسيلة إعلامية أخرى غيرها، لاكتشفنا هول ما حدث وما أنتجته تلك الماكينة التربوية والتعليمية والإعلامية في أجيال الخمسينات وما تبعها ممن ولدوا حتى العشرة الأخيرة من القرن الحالي؟
لقد تكلست مجموعة من السلوكيات والتقاليد والقيم التي تشجع الفردية في التسلط، بل وانها طبعت آلاف الصور الذهنية والسلوكية لشخص الدكتاتور ومن تشبه به طيلة تلك الحقبة في ذاكرة الفرد والمجتمع، وتلاشت أمامها المشاعر الجماعية والانتماء الجمعي للوطن والشعب لصالح تكثيف تلك المشاعر باتجاه شخص القائد والزعيم والرئيس وحزبه الذي تم تقريبه وتوأمته مع العقائد الدينية!؟
لقد أفرزت تلك الحقبة المظلمة من حكم الاستبداد والدكتاتورية كثير من السلوكيات المريضة التي لا تقبل الآخر ولا تتعامل معه الا من منطلق السيطرة والاستكانة، حتى ظهرت في كثير من المواقف بعد انهيار وسقوط تلك الأنظمة بين مختلف التيارات أو الأحزاب التي دخلت العملية السياسية، ولعل أهم تلك الظواهر هي إما الإصرار على الحكم أو تخريبه وتعطيله باستخدام أساليب ميكافيلية لفرض السيطرة والتفرد في اتخاذ القرار!؟
ومن اخطر ما أفرزته تلك الحقبة هو شعور الكثير من السياسيين بأنهم يجب ان يكونوا زعماء بمواصفات لا تقل عن القائد الضرورة، على خلفية تلك الذاكرة المليئة بصور القائد الملهم والزعيم المفدى، حتى ظهرت لدى بعض من قيادات تلك الفعاليات تصرفات وممارسات شبيه جدا بما كان يفعله الدكتاتور، سواء في وسائل الإعلام أو من خلال تعاطيه مع شرائح المجتمع وبالذات العشائر ومؤسساتها التي شكلت عبر تاريخها حواضن لإنتاج الدكتاتوريات وإدامتها؟
ولم تقتصر تلك الظاهرة السلوكية على النخب السياسية بل انتشرت نتيجة ضغط الإعلام الموجه ومناهج التربية وسلوك أفراد النظام الى ممارسات اجتماعية وسياسية تظهر في كثير من الحلقات ذات الصلة بالعلاقات الاجتماعية أو الصراع على السلطة، كما شهدناها في تعقيدات المناصب والتهافت عليها وما انحدرت اليه كثير من التفاعلات السياسية التي تنشط على خلفية موروث وسلوك سيئ جدا وهو ( اما نلعب أو نخرب الملعب!؟ ) التي تجلت بشكل واضح في كثير من ممارسات الأحزاب والشخصيات السياسية التي تتداول السلطة بعد سقوط وانهيار النظام الدكتاتوري، حيث يريد الجميع ان يكونوا ذلك الزعيم المدفون في ذاكرتهم منذ عقود أو ربما قرون!؟
ولعل هذا الشكل من الصراع على السلطة في هذه البلدان، التي تعرضت الى عملية غسل دماغ وذاكرة رهيبة طيلة عقود مريرة من النهج والتربية الأحادية التلقينية، تواجه تحديات غاية في التعقيد تظهر هذا التهافت على إشغال موقع الزعيم المكثف بتراكم الحقبة الماضية في ذاكرة معظم النخب التي يفترض انها تتداول السلطة سلميا، مما يعيق بلورة أو يعرقل قيام وضع اجتماعي وسياسي جديد يعتمد التداول السلمي للسلطة وقبول الآخر المختلف، وإشغال مواقع المسؤولية على أساس مفهوم لا يتعدى كون الرئيس أو نائبه أو رئيس الحكومة أو أي مسؤول كبير أو صغير في الدولة الا موظف حكومي يؤدي خدمة عامة مقابل امتيازات وصلاحيات وقسم بالإخلاص والتفاني من اجل خدمة كل الشعب وحماية الميثاق أو القانون أو الدستور الذي يتفق عليه الأهالي ويعتبروه مرجعهم في الاختلاف أو الاتفاق.
وحتى تتبلور مثل هذه المفاهيم فالجميع هنا وهناك يريدون ان يلعبوا لعبة الزعماء، وإلا فإنهم سيخربون الملعب!؟
التعليقات