شكلت دعوات المطالبة بالحرية والديمقراطية أحد أهم محاور مطالبات الشارع خلال ثورات ما بات يُعرف بالربيع العربي، وعلى الرغم من أن هذين المصطلحين تم تداولهما بكثرة خلال الأحداث الأخيرة، إلا ان أحوال وممارسات وسلوك الشارع أثناء الثورات وما بعدها يعكس في كثير من الأحيان عدم تبلور الوعي الجماعي حول الممارسات الفعلية للديمقراطية، التي ينبغي ان تُمارس بوعي و قبل كل شيئ في الحياة اليومية الفعلية بدءا من المعاملة الأسرية في المنزل ونظم الأحوال الشخصية، وصولا الى بنية الادارة المؤسساتية التي كانت ولا زالت تحكمها العقلية السلطوية القمعية المنبنية على المنفعة المباشرة والهرمية التراتبية التي مافتئت تعتبر الموظف او العامل مجرد رقم طيِّع ينبغي ان يحمد مديره على الدوام.

فكثيرا من التخوفات تثار اليوم حول جدوى استبدال الزعيم الواحد والديكتاتورالأوحد بدكتاتور متعدد الأوجه والصور، بحيث تقوم المعارضات والقوى الثورية في التحول الى ممارسات اشد قمعا وتنكيلا، فيتغير شكل الحكم واسم الحاكم دون ان يتغير جوهر العملية السياسية على الحقيقة.

إن الحقوق المدنية والطبيعية لبني البشر والديمقراطية محوران سياسيان يتكاملان في كونهما الركيزة الأساسية للحداثة السياسية التي تتبلور عبر نقل شكل الحكم وإدارة الدولة من إطار الشرعية التقليدية quot;القبلية quot; و quot;الزعمائية quot; المتمحورة حول الزعيم الواحد إلى الشرعية التمثيلية التعددية المبنية بالدرجة الأولى على المفهوم التعاقدي ndash; وهو بالمناسبة تعاقد غير تام او نهائي - والعقلية التداولية في مجتمع متجدد، كون الشعب هو مصدر جميع السلطات. ومن هنا فإن الحريات كأحد أهم الحقوق الإنسانية هي مكمل محوري للشرط الديمقراطي.

ولا بد من تناول الديمقراطية ليس بوصفها كتنظيم سياسي للمجتمعات وحسب، بل في كونها تنتمي الى منظومة أشمل لا تقتصر على الحياة السياسية وحسب انما تشمل كافة مناحي الحياة لتحقق التعايش المنسجم بين كل مكونات مجتمع ما.

وبناء على ذلك فإن المطالبة بالديمقراطية السياسية مع ممارسة الديكتاتورية في الحياة العادية كفرض منظومة تربوية تقليدية تنبني على الطاعة وحسب وتستبعد من مناهجها كل ما من شأنه ان ينمي قدرات صنع القرار، يُعد امرًا مخالف للسلوك الديمقراطي على سبيل المثال.

انطلاقا من ذلك، فإن الجدل الدائر حول الديموقراطيات في العالم العربي اليوم يحتم على المحللين والمنظرين الاضاءة على الجوانب الاخرى للديمقراطية لتثبيت حضورها في صيرورات المجتمع وسلوكياته، كونها تضفي الصبغة الانسانية والتضامن بين أطياف المجتمع المتنوع ثقافيا و ايديولوجيا وعقديا ودينيا.

على أية حال لا بد ايضًا من الرد على القائلين بأن الديمقراطية هي محكومة بسيرورة تاريخية ولها نموذج واضح ؛ بأن ذلك أمر غير محتم فالتاريخ لا يسير بخط مستقيم، كما انه ليس أحادي البعد بل يحمل الكثير من التناقضات، لذلك فإني لا أنحى الى القول بأن النظام الديمقراطي الليبرالي الحر هو النموذج الخالد الأبدي النهائي، بل ربما سيأتي الوقت الذي يتغير فيه مفهوم الدولة الجيوسياسي بحد ذاته ويتحول، فتصبح الدولة ربما مجرد مجموعة مؤسسات خدمية تقدم الخدمات لأناس يختارون طوعا العيش في اطار مساحتها الجغرافية، فيما يبقى انتمائهم لكونيتهم وانسانيتهم التي لا تحدها الجغرافية ولا يؤطرها تاريخ.

نعم فالديمقراطية هي نموذج ابتر غير مكتمل كما أنه لم ولن يكتمل فلا يوجد مثال نهائي يجب ان يكون عليه بل هو مفهوم متحول يطرح على من يُفكر في حيثياته واشكالياته كثيرا من الأسئلة.

وربما الديموقراطية عندها تكون آلية تفكير وعمل تشمل كافة مناحي المعاش الانساني و تتيح التحول الدائم وتحقق التوازن في مجتمع متجدد ولا تخضع لمعايير صارمة وسيرورة تاريخية واضحة بل ترتبط بالتوازن الآني المؤسس لمستقبل مستمر واكثر توازنا وانصافا وعدلا.

بقي أن نقول ان نقد الديمقراطية يجب الا ينحى لاقرار اي شكل من اشكال الديكتاتوريات لان فوضى الديمقراطية وذرائعيتها أفضل بكثير من حالة الجمود الذي عاشته الشعوب بحجة quot;الممانعة quot; و quot;المقاومة quot; وبعد ان سئمت الشعوب حجج الانظمة الشمولية الحاكمة.

http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com/