ولد نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا فى حى الجمالية بالقاهرة فى 11 ديسمبر عام 1911 ولقد سمى إسما مركبا (نجيب محفوظ) تيمنا بإسم الدكتور نجيب محفوظ باشا والذى أشرف على ولادته التى كانت متعسرة، ووالده كان موظفا لم يقرأ كتابا فى حياته سوى القرآن الكريم وكتاب حديث عيسى إبن هشام للكاتب المويلحى.
...
واليوم ونحن نحتفل بعيد ميلاده المئوى يواجه نجيب محفوظ محاولة لإغتياله ميتا من نفس القوى الإرهابية التى فشلت فى إغتياله حيا، والآن بعد سنوات من مماته نرى هجمة شرسة على نجيب محفوظ من قوى الإرهاب والتخلف والتى تصفه بأنه عار على مصر، وبأن أدبه هو ادب دعارة!! مثلما يصفون الحضارة الفرعونية بأنها حضارة عفنة، ونجيب محفوظ ليس المقصود بتلك الهجمة، ولكن المقصود بتلك الهجمة كل ما هو جميل ونبيل وحضارى فى مصر سواء مازال موجود حاليا أم نحفظه فى تاريخنا وفى قلوبنا مثل: نجيب محفوظ والأهرامات ومعبد الكرنك وتمثال رمسيس وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وغيرهم كثير ممن خلقوا ضمير الأمة المصرية، وهذه الهجمة الشرسة خرجت إلى العراء فجأة من قوى التخلف بعد أن ركبت ثورة 25 يناير (ودلدلت رجليها) بسبب سذاجة شباب تلك الثورة الذين أسقطوا حسنى مبارك ولهم جزيل الشكر على ذلك ثم كسروا شوكة الشرطة المصرية، وحاولوا كسر شوكة القوات المسلحة المصرية ونسوا أو تناسوا بأن خصومهم الحقيقيين هم قوى التخلف والظلام والإرهاب والتى تركب المجتمع حاليا.

وأول مرة سمعت عن نجيب محفوظ كان عمرى سبع سنوات، فقد ذهبت مع أختى وخطيبها لمشاهدة مسرحية quot;زقاق المدقquot; المأخوذة عن رواية نجيب محفوظ والتى تحمل نفس الإسم،فى مسرح دار الأوبرا القديم وكانت المرة الأولى والأخيرة التى دخلت فيها تلك الأوبرا الرائعة والتى بناها الخديو إسماعيل بمناسبة إفتتاح قناة السويس، والتى إحترقت بالكامل عام 1971 وكانت أول دار أوبرا فى أفريقيا والشرق الأوسط، وتم بناء جراج سيارات قبيح مكانها!!
وبالرغم من إعجابى الشديد بالمسرحية إلا أننى بعد ذلك لم أقرأ أى شئ من أدب نجيب محفوظ إلى أن شجعنى على ذلك صديقى العزيز محمد الكفراوى وكان عمرى وقتها 19 عاما، فقد كنت قبل ذلك مغرما بكتابات العقاد وأحمد شوقى وتوفيق الحكيم وطه حسين، ولما بدأت بقراءة روايتى زقاق المدق وخان الخليلى وجدتنى أمام عالم مبهر جديد، وما شدنى أيضا فى البداية هو وصفه الجميل للأحياء الشعبية المصرية فى الثلاثية، وهو وصف عاشق صادف هوى فى نفسى لأننى نشأت فى حى مصر القديمة الشعبى.
ومن ساعتها لم يظهر كتاب لنجيب محفوظ أو رواية مسلسلة له فى الجرائد أو المجلات إلا وكنت أول من يقرأها، وفتح نجيب محفوظ عالما جديدا لى فى الفن والأدب والفلسفة والعشق، وبلغ إعجابى ببعض رواياته مثل quot;ملحمة الحرافيشquot; أن قرأتها أكثر من عشر مرات، وحتى اليوم لا بد من حين لآخر أن أقرأ جزءأ من رواية الحرافيش، والتى كان يستحق عليها نجيب محفوظ جائزة نوبل أخرى (تم ترجمة تلك الرواية بعد أن فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل فى الآداب عام 1988).
...
وقد سمعت أن نجيب محفوظ يجتمع فى ندوة ثقافية مفتوحة كل يوم جمعة، ولكن لم يكن لدى الجرأة لأن ألتحق بتلك الندوة، حتى كان يوم خميس تجرأت وإتصلت بجريدة الأهرام أسأل عن نجيب محفوظ، ولحسن حظى كان موجودا وقد توقعت أن ترد على سكرتير أو سكرتيرة ولكنى فوجئت بصوت نجيب بك يرد على شخصيا، ودار بيننا حديثا قصيرا:
- أيوه ياإستاذ نجيب .. أنا سامى البحيرى ولكن مافيش أى قرابة بينى وبين سرحان البحيرى (سرحان البحيرى كان شخصية إنتهازية فى رواية نجيب محفوظ ميرامار).
(وسمعت على التليفون ضحكته المجلجلة والمشهور بها) قائلا:
- أهلا وسهلا إستاذ بحيرى ... أى خدمة؟
- لأ.. أنا نفسى بس أشوف حضرتك.
- إتفضل أنا موجود فى مكتبى بالأهرام دلوقتى.
ولم أصدق نفسى، وأخذت سيارتى الفيات وفوجئت بالإزدحام الرهيب للمرور يوم خميس القاهرة، وصلت جريا إلى مكتبه البسيط وأنا متأخر كثيرا وفوجئت به يرحب بى وكأنى أحد أبنائه، ولكن موعد إنصرافه كان قد حل، وسألنى مرة أخرى:
- أى خدمة ياإستاذ بحيرى؟
- لأ.. أنا بس كان نفسى أشوفك.
- أهلا وسهلا... إيه رأيك لو فاضى تيجى لنا بكرة فى كازينو قصر النيل الساعة خمسة بعد الظهر إحنا بنقابل مجموعة من الإصدقاء
ولم أصدق نفسى، نجيب بك بنفسه يعزمنى على حضور ندوته.
وفى اليوم التالى ذهبت قبل الموعد بربع ساعة فوجدت عدد محدود من الأشخاص وعرفتهم بنفسى، وفى الساعة الخامسة بالضبط حضر نجيب بك، وكنت تستطيع أن تضبط ساعتك على موعد حضوره الساعة الخامسة أو إنصرافه فى الساعة التاسعة
وعندما حضر قام نجيب بك بتعريفى بالحضور وقال لى أنه سيعزمنى على مشروب لأول مرة فقط، بعد ذلك كل واحد يدفع لنفسه، وقد كان وأصبحت مواظبا على حضور تلك الندوة كل يوم جمعة وكأننى على موعد مع معشوقتى. وكان هذا فى منتصف السبعينات أى قبل حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل بحوالى 13 سنة، وكان عدد حضور ندوة قصر النيل يتراوح بين أربع أشخاص وست أشخاص، وكان بين الحين والحين يحضر بعض المستشرقين أو الطلبة الأجانب الذين يدرسون الأدب أو التاريخ العربى للندوة لأخذ أحاديث صحفية. وكان يعطى أحاديث صحفية لأى شخص بدون تحفظ، وكان يشجع الكتاب الشبان بلا حدود حتى لو كان أدبهم متواضعا، وكان يقول أنه بتشجيعهم ربما نحصل على أديب أو إثنين. وكانت نصيحته الدائمة للأدباء الشباب، لا بد أن تقرأوا كثيرا قبل أن تفكروا فى الكتابة.
.. وفى عام 1986 كنت أعمل مهندسا فى بناء محطة كهرباء بالمنصورة ومكثت هناك سنتين أعمل فى شركة إستشارية أمريكية وكان رئيسى فى العمل مستر والتون مهندسا ممتازا وكان رجل ذو خبرة طويلة وقد تعلمت منه الكثير، ولما علم هو وزوجته أننى أذهب كل يوم جمعة لندوة نجيب محفوظ طلبا منى أن أطلب منه أن يوقع على أحد كتبه المترجمة للإنجليزية، وقد كان، وقلت لهما فى هذا الوقت أن نجيب محفوظ يستحق جائزة نوبل ولكن المشكلة أن الكثير من كتبه لم يترجم بعد، وإعتقد مستر والتون وزوجته أننى أقول ذلك لأننى متعصب لمصريتى ولأننى من أصدقاء ندوة نجيب محفوظ، لكن صدق تنبؤئى ولم يمر عام إلا وأتلقى إتصال من صديق لى بالقاهرة يوقظنى من النوم فى الفندق بالمنصورة ليخبرنى بواحد من أسعد الأخبار التى تلقيتها فى حياتى وهو فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وشعور الفرح كان لدى طاغيا وكأننى أنا الفائز بالجائزة، وما أسعدنى بالجائزة هو أنها أنصفت كاتبا عمل بالكتابة لأربعين عاما فيما يشبه الرهبنة، فهو كان لايزال يسكن فى شقة متواضعة بالدور الأرضى بها غرفتان نوم فقط، وكان يكتب على ترابيزة السفرة، وعندما حضر السفير السويدى إلى منزله ليخبره بخبر فوزه بالجائزة فوجئ بتواضع شقة نجيب محفوظ وتواضع أثاث المنزل وتواضع ملابسه وخاصة حين خرج للقاء السفير السويدى بالبيجاما!!
وكان أول يوم جمعة فى ندوة قصر النيل بعد إعلان فوزه بجائزة نوبل أشبه بالفرح حقيقة وشاهدنا وجوها كثيرة من كل أنحاء العالم وضاق المكان علينا، وتم أزاحتنا نحن أصحاب الندوة الأصليين! بواسطة هذا الهجوم الإعلامى والذى كان يزعج نجيب حفوظ كثيرا، وشعرنا بأننا أصحاب الفرح الحقيقيين وأن هناك أناس آخرين جاءوا ليسرقوا منا الفرح ولكن شعور الفرحة كان طاغيا بحيث غطى على كل تلك المظاهر، ومن يومها لم تعد ندوة قصر النيل كما كانت، فأصبحت دائما مزدحمة بالصحفيين العرب والمصريين والأجانب.
وبعد إعلان نبأ الفوز صرح نجيب محفوظ بأنه لن يذهب لإستلام الجائزة، وحاولنا معه بشتى الطرق نحن أصدقاء الندوة أن نقنعه بالذهاب لإستلام الجائزة ولكن بدون أى جدوى، وكانت حجته أنه يكره السفر لأن السفر يلخبط له نظام حياته الصارم الذى وضعه لنفسه ، وهو لم يسافر خارج القاهرة والإسكندرية إلا ثلاث مرات فى حياته مرة إلى اليمن ويوغسلافيا (وفى المرتان كانت بأوأمر شبه رئاسية من السلطة أيام عبد الناصر) ومرة أيام مرضه سافر إلى لندن للعلاج.
ولكراهيته للسفر حكاية عجيبة حكاها لنا: فقد تخرج نجيب محفوظ من كلية الآداب قسم لفلسفة عام 1934 وكان ترتيبه ثانى دفعته، وكان أول دفعته مسيحيا، وجاءت منحة للدراسة فى أوروبا وكان من المفروض أن يؤخذ الأول والثانى من دفعة قسم الفلسفة وإطمأن نجيب محفوظ بأنه سيسافر إلى أوروبا لأن ترتيبه الثانى وأعد عدته وشنطة سفره ولم يبق إلا أن يحصل على تذكرة السفر، إلا أنه فوجئ بأنه قد تم تخطيه من الإختيار ووقع الإختيار على ثالث الدفعة (المسلم) وكان الإعتقاد من مسئولى كلية الآداب فى هذا الوقت بأنه ليس من المعقول إرسال إثنين من الطلاب المسيحيين للبعثة إعتقادا منهم بأن نجيب محفوظ هو مسيحى أيضا كما بدا من أسمه!! ومن يومها كره نجيب محفوظ السفر كما كره التفرقة فى المعاملة لسبب دينى أو عرقى، وخاصة أنه كان ضحية لتفرقة كانت حتى فى غير محلها!
...
ومما هو جدير بالذكر (يمكننى ذكر ذلك الآن بعد وفاة نجيب محفوظ لأنه لم يكن يحب إعلان تلك الأشياء فى حياته) أنه جاءنا يوما فى الندوة وكان يبدو مبتهجا فسألناه: إيه خير يانجيب بيه؟ فقال: الحمد لله خلصت من فلوس نوبل!! وشرح لنا كأصدقاء أنه قسم جائزة نوبل (التى بلغت وقتها على ما أذكر 400 ألف دولار) إلى أربعة أجزاء أعطى لزوجته الربع ولبنتيه (أم كلثوم وفاطمة) كل ربع الجائزة أما الربع الأخير فتبرع به لبريد الأهرام (لتلبية إحتياجات المعوزين من قراء الأهرام) وقال لنا يومها أنه أعطى شيك بالمبلغ للسيد عبد الوهاب مطاوع المسئول عن تحرير باب مشاكل القراء فى الأهرام، ولم يملك نجيب محفوظ شيئا فى حياته فلم يكن لديه سيارة أو بيت لأن بيته كان شقة بالإيجار.
وأكثر ما تعلمته من نجيب محفوظ هو بحثه الدائم عن الحقيقه وموضوعيته المتناهية حتى على نفسه، فعلى سبيل المثال أنه بعد أن فاز بجائزة نوبل سألناه عن رأيه فقال بأسلوبه الساخر الجميل: يبدو إن لجنة نوبل إختارت أحسن الوحشين!!
وحتى بعد أن هاجرت إلى أمريكا إستمرت علاقتى بالإستاذ نجيب محفوظ، فقد كنت أحضر دائما للندوة عند سفرى للقاهرة وكنت كذلك أكلمه تليفونيا من أمريكا، وأذكر فى مرة أننى إتصلت به ففوجئت به يقول لى: إنته إيه إللى مخليك فى أمريكا ما تيجى تقعد معانا هنا، إنته راجل بتحب الإنس زينا!! فقلت لنفسى لقد مس نجيب محفوظ وترا حساسا لدى وربما لدى كثير من المهاجرين المصريين لأننا فعلا نحس بالإشتياق لهذا quot;الأنسquot; الذى نشأنا عليه فى مصر.
...
وفى يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994 كنا نجلس فى كازينو قصر النيل ننتظر بلا جدوى مجئ نجيب محفوظ ولما عرف عنه بدقة مواعيده إزداد قلقنا عليه، فقام أحد الحضور وإتصل بتليفون منزله فأخبرونا أن نجيب بك قد تعرض لحادث سيارة بسيط وهو الآن فى مستشفى الشرطة المجاور لمنزله، فذهبنا إلى المستشفى لزيارته والإطمئنان عليه فرفضوا دخولنا وقالوا لنا أنه حاليا ممنوع من الزيارة. فإنصرفنا كل إلى بيته، وفوجئت وأنا أسمع نشرة أخبار التليفزيون المصرى بالخبر الأول يعلن عن محاولة إعتداء إجرامية على حياة نجيب محفوظ، وكانت لحظة من أتعس لحظات حياتى، وقررت أن أذهب لزيارته فى المستشفى فرفض رجال الأمن السماح لى بزيارته، فقررت الذهاب فى المساء مع زوجتى وبناتى لزيارته جميعا على أننا من أقارب نجيب بك، وبالفعل ذهبنا كل الأسرة وقلنا للمسئول عن حراسته أننى إبن أخت نجيب محفوظ، فطلب الإنتظار لحين سؤاله!! وجاء رد نجيب محفوظ أن يسمحوا لسامى البحيرى إبن إخته بالدخول، وبالفعل دخلنا ووجدته يبتسم بألم وعرفته بأسرتى ولم نمكث كثيرا ولكنى إطمأننت عليه.
ولم يعد نجيب محفوظ كما كان بعد محاولة إغتياله واحسست به وكأنه يقول :quot;ماكانش العشمquot; لأنه كان يمشى فى الشارع مثل أى شخص مصرى عادى وكان يحيى ويصافح كل الناس البسطاء، حتى الشخص الذى إعتدى عليه بهدف قتله مد نجيب محفوظ يده للسلام عليه ظنا منه أنه يرغب فى quot;السلامquot; ولكن الخسيس مد يده بسكين الغدر فى رقبته ولولا أن الله سلم وكان نجيب محفوظ أمام مستشفى الشرطة لكان قد نزف حتى الممات.
وحين نذكر نجيب محفوظ فى عيد ميلاه المئوى يجب أن نذكر ليس فقط أدبه العالمى ولكن يجب أن نذكر أيضا موضوعيته وتواضعه الجم الحقيقى وزهده فى الحياه وبعده عن نفاق السلطة وحبه للسلام وحبه الغير محدود لمصر وحبه للناس، فقد كان معينا من الحب والعطاء لا ينضب.
لقد كتبت مقالا عند وفاته بعنوان quot; نجيب محفوظ حضرة المحترم ..العائش فى الحقيقةquot; (وهما عنوانين لروايتين لنجيب محفوظ)، وكان ولا يزال نجيب محفوظ هو حضرة المحترم .. العائش فى الحقيقة، وأذكر أن أحد شخصيات روايته quot;المراياquot; قال: quot;إعشقوا الحقيقةquot;، وهى أفضل نصيحة أوجهها لبناتى ولكل الشباب.
[email protected]