فرغم محدودية الاحتجاج وتواضع هتافات المحتجينquot;الشعب السوري ما بينذل.... لا اله إلا اللهquot;الذي شهدته منطقة quot;الحريقةquot; وسط العاصمة دمشق يوم الخميس 17 شباط الحالي، إثر اعتداء عناصر من الشرطة على مواطن بالضرب والإهانة والذي تطلب فضه حضور وتدخل وزير الداخلية شخصياً، يعكس(هذا الاحتجاج) حجم الاحتقان الكامن في الشارع السوري والذي تسبب ويسبب به عسف السلطات الأمنية وامتهانها للكرامات،فضلاً عن الأثقال المعيشية والاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي يرزح تحتها المواطن السوري.ومع تطاير شرارة الاحتجاجات الشعبية وتوسعها في مجتمعات المنطقة بسرعة مذهلة لم يكن أحداً يتوقعها حتى أكثر المتفائلين، لم يعد حديث السوريين عما اذا كانت بلدهم ستتأثر بهذا الزلزال السياسي الغير مسبوق في تاريخ المنطقة أم لا؟. وانما متى و كيف وطبيعة هذا التأثر وحجم وسقف التغييرات التي ستطال الدولة السورية المترهلة ونظامها الشمولي؟. أن نجاح الثورات والانتفاضات الشعبية في دول الجوار، وما ستحدثه من نقلة سياسية نوعية باتجاه التحول الديمقراطي والحريات السياسية والفكرية وما ستوفره من مناخ سياسي وأخلاقي ضاغط على المشهد السوري،ستضع سوريا أمام خيارين: إما عملية quot;إصلاح حقيقيةquot; شاملة (سياسية،اقتصادية،إدارية،قانونية،اجتماعية ) تطمئن السوريين،خاصة جيل الشباب، لمستقبلهم،يقوم بها النظام نفسه تكون بمستوى التحولات السياسية والدستورية النوعية التي حصلت وتحصل في المنطقة،وهذا ما يفضله معظم السوريين وان جاءت هذه الاصلاحات بالتدريج وعلى مراحل. أو عملية quot;تغيير جذريةquot; تحدثها الاحتجاجات والاعتصامات الشعبية السلمية في الشارع. سوريا
أن تبدو سوريا حتى الآن محصنة في وجه موجة الاحتجاجات والاعتصامات الشعبية التي تجتاح المنطقة،التي أطاحت حتى الآن بنظام دولتين(تونس و مصر) ونظام دولة ثالثة على وشك السقوط(ليبيا)،لا يعني أنها سوف تبقى بمنأى عن تأثيرات هذه الاحتجاجات ما لم يستجيب نظامها للحاجة الملحة للإصلاحات الاقتصادية والسياسية والدستورية التي يتطلع اليها وينتظرها الشعب السوري منذ زمن بعيد. وقد أوضحتا في مقال سابق بعنوانquot;لهذه الأسباب امتنع السوريون عن التظاهر والاحتجاجquot;،نشر على صفحات هذه الجريدة الالكترونية(ايلاف)، أسباب عدم استجابة السوريين في الداخل لدعوات التظاهر التي دعت اليها قبل أسابيع بعض المعارضات السورية في الخارج،وأكدنا في ذات الوقت على أن عدم تظاهرهم اليوم لا يعني أنهم لن يحتجوا أبداً.
رغم مشاعر الاحباط التي تسيطر على معظم السوريين ويأسهم من الوضع القائم،ما زال الكثير منهم يراهن على quot;الحس الوطنيquot; للرئيس بشار في حماية وتحصين الاستقرار الوطني و تجنيب البلاد خطر الانزلاق الى الفوضى والفتنة التي قد تتسبب بها التظاهرات الشعبية المتوقع حصولها في الشارع السوري احتجاجاً على الأوضاع القائمة.أمل وتفاؤل السوريين مبعثهما تأكيدات الرئيس الأسد، في معظم مقابلاته ولقاءاته الصحفية، على أولوية الاستقرار الوطني وتحصين السلم الأهلي،وعلى حاجة سوريا(نظاماً ومجتمعاً) للإصلاح والانفتاح. قبل أسابيع فقط قال الرئيس الأسد لصحيفة (وول ستريت جورنال) الأميركية quot; ان الأولوية بالنسبة له تبقى الاستقرار والانفتاح السياسي التدريجي والإصلاحات الاقتصاديةquot;.طبعاً،أن الاستقرار والسلم الأهلي والمجتمعي لن يتحققا فقط بالاعتماد على الاجراءات الأمنية وحدها، وانما أيضاً من خلال تحقيق quot;المساواة والعدالةquot; في توزيع الثروة الوطنية على جميع السوريين.العدالة والتوازن في تطبيق خطط وبرامج التنمية في مختلف المناطق السورية كذلك العدالة في تقديم وتوفير مختلف quot;الخدمات الاجتماعيةquot; وفرص العمل وتكافؤ الفرص لجميع أبناء الوطني السوري دون تمييز أو تفضيل بين هذا وذاك.رهان السوريين ليس على النظام وانما هو بالدرجة الأولى على رئيسهم( وهم يُعَبر عنه من خلال رسائل وكتب توجهها اليه شخصيات ومنظمات سورية في الداخل والخارج يناشدونه في الإسراع في تنفيذ الاصلاحات المطلوبة والمنتظرة وإنقاذ البلاد من آفة الفساد التي تنخر ببنيان الدول وكيان المجتمع).اذ اعتقد بأن quot;الواقعية السياسيةquot; في سوريا في ظل العهد السياسي الجديد الذي بدأته مع بشار الأسد رئيساً،تقتضي الفصل أو التمييز بين رئيس شاب طموح وبين نظام شمولي مؤدلج مأزوم بات يشكل عبئاً ثقيلاً ليس على الشعب السوري فحسب، وانما حتى على الرئيس بشار نفسه، وان كان هذا الرئيس ابن أو نتاج هذا النظام.وقد عبر الرئيس بشار عن تذمره من هذا النظام المتحجر، بسبب سلطة ونفوذ من مَن سماهم بـquot;حراس مصالحهمquot;،خلال لقاء له مع الكاتب الأمريكي (فلنت ليفريت) في دمشق،قال الأسد:quot;أن الحرس القديم في سوريا ليس اثنين أو ثلاثة أشخاص يمتلكون مناصب رفيعة في أعلى النظام بل هم حرفياً ألاف البيروقراطيين العاديين و المتحجرين على امتداد النظام و الذين تخندقوا في مواقعهم على مر السنين و العقود و ليست لديهم أية مصلحة في أن يسير أي شيء على نحو مختلف...quot;.وفي وقت سابق(13-5-2004 ) قال الأسد لوفد إعلامي أمريكي، في لقاء متلفز معه بدمشق:quot;الانتخابات الحرة في سوريا قادمة.. وأضاف: أنا لا اهتم بمنصبي، فقد أكون خارج وظيفتي في أية دقيقة. لكنني كسوري لدي واجب بلدي. هذه هي الطريقة الوحيدة للحكم من هذا المنصب.وعندما اشعر بأنه لا يمكنني أن أقدم شيئاً لبلدي قد أغادر..quot;. لسنا هنا بصدد تقييم تجربة عشر سنوات من حكم الأسد الابن والحكم على ما قدمه لبلاده وما لم يقدمه منذ استلامه السلطة في تموز 2000، وانما ما نريد قوله هو: أن ما ينتظره السوريون من رئيسهم هو أكثر بكثير مما قدمه لهم حتى الآن،خاصة في هذه المرحلة المصيرية الصعبة التي تمر بها البلاد والمنطقة عموماً والتي تتطلب قرارات جريئة وخطوات اصلاحية سياسية ودستورية مهمة وتاريخية، تنهي احتكار quot;حزب البعث العربي الاشتراكيquot; للسلطة، وتتيح للشعب السوري بكل طيفه القومي والديني والسياسي والثقافي المشاركة الحقيقة في بناء وتأسيس نظامه (السياسي والاجتماعي والاقتصادي)،القائم على الفصل بين السلطات واستقلال القضاء. اصلاحات تكفل للشعب السوري التداول الديمقراطي السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة،مثلما وعد سيادته في لقاءه مع الوفد الأمريكي وهو القادر على ذلك وفق الصلاحيات الدستورية الواسعة الممنوحة له.إذ ما من مجتمع يمكنه التطور والتقدم، بدون وجود مناخ كاف من الحريات الديمقراطية والسياسية والاقتصادية والفكرية، تعمل وتتنشط فيه فعاليات المجتمع ومختلف قواه الحية.ومن غير صحافة حرة، وقوى معارضة وطنية في الداخل، تكتب، بحرية وبدون خوف، و تُقييم دور الحكومة وتنتقدها على أخطاءها وتقصيراتها وتلاحق مصادر الفساد في أجهزة الدولة، وكذلك من غير قضاء نزيه ومستقل يحاكم ويحاسب المسيئين والمقصرين،ومن غير سلطة شرعية تشرع وتسن القوانين، التي تمليها مصالح وحقوق المواطنين وليس مصالح النظام والطبقة الحاكمة.
أن فزاعة تخويف السوريين من quot;البديل الاسلاميquot;، في حال الانفتاح الديمقراطي، أعتقد بأنها لم تعد تقنع أحداً من السوريين، حتى أولائك الذين يطلقونها ويروجون لها من أهل الحكم. فهذه الفزاعة ليست أكثر من ذريعة يبرر بها النظام القائم احتكاره للسلطة واستبداده للشعب السوري.ما يبدد هواجس السوريين من وصول الاسلاميين الى السلطة واقامة نظام quot;حكم اسلاميquot;في سوريا،ليس بقاء هذا النظام الاستبدادي، الذي أختزل الدولة السورية بنفسه و أفقر الشعب السوري و سئمه معظم السوريين،كما أنها ليست تطمينات رموز quot;التيار الاسلاميquot; من أخوان مسلمين وغيرهم وتأكيداتهم على أنهم لا ينون اقامة دولة اسلامية في سوريا وحكمها وفق الشرع الاسلامي،وانما ما يطمئن السوريين على بقاء الطابع المدني والوجه الحداثي لدولتهم هو فقط طبيعة المجتمع السوري المتسامح و المتنوع بتركيبته الاجتماعية والثقافية والدينية والاثنية.فكما هو معلوم أن المجتمع السوري مجتمع متنوع، تشكل الأقليات(المسيحية والاسلامية والاثنية) نحو 50% من نسبة سكانه.فبحكم الخصوصية الاجتماعية والثقافية لهذه الأقليات هي تلتقي في رفضها لمشروع quot;الدولة الاسلاميةquot;.لهذا يصعب وربما يستحيل وصول الاسلاميين الى السلطة في سوريا تحت أي شعار عبر الآليات الديمقراطية وصناديق الاقتراع الحر،خاصة وان quot;المجتمع السنيquot; في سوريا،الذي يشكل الحاضنة الاجتماعية والفكرية للأصولية الاسلامية وللفكر السلفي الاسلامي عموماً،هو بغالبيته مجتمع منفتح ومتسامح مع الفكر الآخر. جدير بالذكر هنا،أن quot;الدولة السورية الحديثةquot;، التي تأسست في عشرينات القرن الماضي، كانت أكثر ليبرالية وعلمانية وحداثة وتسامحاً،من ما هي عليه اليوم وبعد نحو نصف قرن من حكم quot;حزب البعث العربي الاشتراكيquot; لها. أعتقد بأن أقصر طريق لوصول quot;الاسلاميينquot; الى السلطة في سوريا هو تمسك quot;النظام البعثيquot; القائم بالدستور الطائفي المؤدلج الذي وضعه و يفضل ويميز بين السوريين على اساس ديني وقومي، وانفراده بالسلطة واستمراره في رفضه معالجة quot;مشكلة الاقلياتquot; الغير عربية (آشورية وكردية وأرمنية وغيرها) على أسس وطنية ديمقراطية عادلة، ومحاصرته للقوى والفعاليات الوطنية الديمقراطية، من ليبرالية ويسارية وعلمانية واسلامية ومنظمات المجتمع المدني، الخارجة عن نهجه السياسي،ورفضه الانتقال بسوريا الى quot;دولة المواطنة والحقوق الكاملةquot; لكل ابناءها،دون تمييز أو تفضيل.
باحث آشوري مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات