كنا نعاني كعراقيين معارضين نعيش في الخارج من صمت الأديب العربي عن كل ما يجري في العراق من امتهان للإنسان. بحجج شتى أولها غياب المعلومات الموثقة وآخرها موقف النظام (المناطح للامبريالية) ومشاريعها في المنطقة. كان الأديب العربي يتجنب لقاءنا وكأننا مصابين بجذام لاعلاج له. اعتقدنا أن المعركة واحدة، فالعراقي ليس اقل شانا من الآخرين ليستحق كل ما يتعرض له من اضطهاد وسبي. الثقافة كانت تصادر، تمتهن، و(حلوين الشوارب) يتوافدون على بغداد ( الصمود)ومهرجاناتها العتيدة، ويغادرون محملين بهدايا وزير الثقافة الأمي، الذي اسماه تحببا احد اكبر الشعراء العرب، وبلا خجل، وزير الشعراء.

الأدباء الذين تقرّدوا على شجرة البعث العراقي متوسلين طبع رواية أو مجموعة شعرية، لم يستحوا حين جعلوا من أسمائهم الرنانة مسامير رخيصة في آلة النظام الإعلامية. التواطؤ مع الأنظمة صارت سلوكا محببا ليس فقط لاتحادات الأدباء ومريديهم، بل لأغلب الأسماء التي احترمنا وسهرنا ليالينا في قراءة نتاجا تهم الجميلة التي اعتبرناها، مخدوعين،محاولة صادقة لتأسيس إنسان عربي جديد.

سكتنا على مضض، ودارت عجلة التاريخ، وما كان يعتبرونه مبالغات، وإحساس مرضي بالاضطهاد لدى العراقيين تحول إلى كابوس عام وشامل لم تستطع شعوب عربية أخرى تحمله، فخرجت هي الأخرى بكل ما لديها من كرامة والأديب العربي والسوري خاصة،الصامت رغم الموت وحملات الإبادة اليومية، والمتواطئ في وليمة آكلة لحوم البشر الجارية في سوريا، ماذا بقي له؟ بماذا يبرر هذا الصمت والحيادية لحد المشاركة في الجريمة.

باستثناء موقف ادونيس المتميز وان جاء متأخرا وملتبسا، لم نجد في الساحة إلا فرسان النظام أين الهامات الكبيرة لكتاب القصة والشعراء؟ وبعضهم يعيش في الخارج متحررين من قبضة الأمن وشبكاته العنكبوتية.

أصبح الاستمرار باللامبالاة مساهمة في الجريمة. اتحاد الكتاب العرب السلطوي الهوى عقد عدة ندوات لرفع العتب، وركزت وبشكل مشبوه على(الفتنة وسوريا الممانعة).

أسماء كبيرة كنا نتوقع منها المجاهرة بموقف ما.فنانون كمنى واصف أعلنوا احتجاجهم على
مذابح درعا وحصارها البربري. صحيح أن بعضهم تراجع تحت ضغط التهديد والتخوين، ولكنهم قالوا كلمتهم بشرف، وسط الصمت الثقيل المخيم على الوسط الثقافي.

تلك الأسماء غابت بشكل كامل متجاهلة كل عمليات الإذلال والقتل التي تمارس ضد شعب يرفض الركوع. نحن لا نطالبهم بمنتج إبداعي يواكب حركة الجماهير التي خرجت لتكتب تاريخها الجديد، فنحن نعرف أن العمل الجميل يحتاج لفترة اختمار طويلة كي لا يولد فجا وشعاريا كأغلب أدب المناسبات. نحن ننتظر منهم وكحد أدنى الوقوف مع الإنسان السوري الذي يذبح يوميا بالاحتجاج وتحدي الجلاد بكلمة، بموقف معلن.

الصمت لم يعد ممكنا، أنكم تشاركون الجلاد في كرنفال الدم. إشاحة الوجه لتجنب رؤية ما
يجري أصبح مستحيلا، الدبابات التي تتقدم بارتالها الهمجية، الشبيحة المدرعين بكل ذلك الحقد البدائي والغريب. إنها حرب إبادة لم تعد التلال قائمة للوقوف عليها. إنها المواجهة الكبرى بين الشعب وجلاديه. كيف يستطيع الأديب الشاعر مواجهة حبيبته أو ابنه حين يسألاه ما رأيك بما يجري ؟ هل يتجاهل السؤال كما فعل جل الأدباء حين استفتتهم جريدة القدس قبل أيام ؟ حيث امتنعوا عن الإجابة، تجاهلوا كل شيء وكأن ما يحدث جرى في قارة نائية.

قال الكاتب السوري الراحل سعد الله ونوّس جملته الشهيرة (نحن مهزومون حتى العظم) في الحديث عن المثقف العربي، فهل يصبح ذلك تشخيصا لدور النخبة في تاريخنا العربي الحديث. الأديب المتسول المرتعش أمام باب السلطة لا يستحق منا إلا الادانة.