تمخّض الجبل فولد عقوبات، هذه هي النتيجة التي فاجأتنا بها الوزارة الوصية عن تسيير إعلامنا وشؤون صحافتنا، قانون إعلام كلّ ما نعلمُ عنه لحدّ الآن، أنّه وُضع على طاولة الوزارة الأولى للنظر فيه، وأنّ أولى خيوطه الظلامية تُبقي على نفس العَتمة التي تكتنف الساحة الإعلامية الجزائرية لتطيل من حُلكة مستقبل صحافة يبدو غدها مدموس تحت إرث بال وذهنيات متراكمة بشكل لا تسمح لإشراقة الحريات أن تبزغ في سماء اعلامنا ويمنع ضوء الحقّ في الاتصال من أن ينير عقولا مازالت حبيسة في زمن الحزب الواحد.

من المضحكات-المبكيات في مشروع قانون الإعلام، أن وزارتنا للاتصال التي من المفترض منها أن تدافع عن حريات الاعلام، هي من دوّنت عقوبات لتكميم الأفواه وتكبيل الأيادي وكسر الأقلام، وسيسجّل التاريخ أن الإدارة هي من أعادت الرُشد إلى الوزارة لمراجعة قانون القهر.

حريات ملغّمة

ماذا قصد معالي الوزير بقوله أنّنا لن نجد قانونًا متوازنًا يوفّر كلّ الحقوق والحريات واحترام أخلاقيات المهنة مثل هذه الوثيقة؟ نحن نؤمن أنّ إرضاء الجميع غاية لا تُدرك، لكنّنا نؤمن أن هناك عدّة مناهج لإرضاء الأغلبية وبلوغ أرضية توافقية تتقاطع فيها الآراء وتتشارك فيها الأفكار وتتعانق فيها المقاصد، وهذه الأرضية تتّسع أكثر لتسع الجميع في حالة ما إذا نظر هذا القانون إلى الحريات على أساس أنها ممارسات نعيشها و سلوكات نحياها وثقافة نستنشقها ومسؤولية نتحمّلها، قانون لا ينظر إلى الحريات على أساس أنها تثير المشاكل أكثر ممّا تحلّها، ولا يتعامل مع هذه الحريات كمنبع لقلاقل و انزعاجات، حتى لا يتحوّل هذا القانون إلى مساحة من الحرية ملغّمة بعقوبات و مُسَيّجة بغرامات تجعل الإعلامي ينظر إلى هذا القانون على أنه أوّل بوّابة نحو الزنزانة.

أكد الفيلسوف باروخ سبينوزا في القرن السابع عشر أنّ القوانين التي تلجم الأفواه وتحطّم الأقلام تهدم نفسها بنفسها، فعملت أكبر الدول الديمقراطية اليوم بنصيحة هذا المفكر واجتهدت على تطويرها بما يتماشى مع ركب العصر وروح القوانين، غير أنّ وزيرنا للإتصال أكد أن قانون الإعلام الجديد متماسك، ويتوافق مع ما هو موجود في بلدان رائدة في مجال الحريات، فأيّ بلد ديمقراطي اقتبست منه وزارتنا هذه العقوبات حتى نفخر بأن ديمقراطيتنا بلغت مُنتهاها بسجن الإعلامي؟ من هي هذه الدول ونحن نعرف أنها حسمت في مسألة الحريات والحقوق منذ أكثر من قرنين، وهي لا تدع أي مناسبة لطرح أفكار جديدة تتناول بالنقاش العلمي الهادف والبنّاء الممارسات المستجدّة في الساحة الإعلامية حتى تضبطها وتكيّفها حسب مجرى الحريات ومقتضيات القانون؟

سقوط السقف

تحدّث السيد ناصر مهل وزير الاتصال الجزائري بفخر عن سقف الحريات الذي يُوفّره هذا القانون دون الإشارة إلى حدود ارتفاع هذا السقف، ودون أن يتحدّث عن الحقّ في الوصول إلى مصادر الخبر على سبيل المثال، فعن أي سقف للحريات يتحدّث وهو يركّز في حديثه على الدفاع عن العقوبات أكثر ممّا يوضّح ركائز هذه الحريات؟
أمّا عن مسألة اعتبار الصحفي مثله مثل بقية المواطنين، وأنّ الكلّ متساو أمام القانون، فهذه مغالطة مفضوحة، لأنّ الصحافي في الجزائر لم يطالب بأيّ حصانة، لكنّه يحلم فقط بقانون يحميه أكثر من قانون يتعقّب أخطاءه ليُعاقبه، وإذا أخذنا بهذه الفكرة، فلنتصور لو أن الدولة تُسنّ أيضًا قوانين تعاقب الطبيب بنفس العقوبة المسلّطة على الصحفي في حالة وقوعه في الخطأ، ومعاقبة القاضي والمهندس والإداري وجميع الجزائريين باعتبار أن الكل متساو، والكل مفروض عليه بدفع غرامة 500000 دينار وقضاء خمس سنوات سجن وراء القضبان. كما أن التحجّج بأنّ كلّ دول العالم تعمل بمثل هذه العقوبات، فأنا أشاركه رُبع الرأي، لكنّي أذكّره أنّ هذه الدول لم تشدّد في العقوبات إلاّ بعدما فتحت كلّ الأبواب أمام الصحافي، ولم تدع له أيّ مساحة يرتكب فيها أيّ خطأ، اللهم إلا إذا أراد هو تعمّد ذلك لحاجة في نفس يعقوب، غير أنّه في بلادنا مساحة الحرية جدّ جدّ ضيّقة، وأبواب الأخطاء مفتوحة على مصراعيها، فكيف لا يدخلها الصحفي وهو يرى بقية الأبواب كلّها موصدة أمامه.

نسخة طبق الأصل

البعض، ممن تحدثت إليهم ودافعوا عن مشروع هذا القانون، بالغوا في مدحهم له إلى درجة يخال لك فيها، أنّ هذا القانون نُسخة طبق الأصل لأحسن قوانين الإعلام في العالم وعُصارة لأكثرها ديمقراطية، ومرآة لقوانين أكثر الدول حرية، وهذه هي الطامة الكبرى، لأننا في حقيقة الأمر لسنا بحاجة لاستنساخ قانون أيّ دولة، إنّما نحن بحاجة إلى قانون جزائري خالص ينطبق مع حالة الجزائر ونابع من عمق واقع اعلامنا، وهذه هي حقيقة مأساتنا، فنحن نشعر بالعجز حتى في وضع قواعد قانونية لحلّ مشاكلنا، ونُحسن فقط الركض لاستيراد أي قانون مثلما نُسرع لاستيراد البطاطا مع أن (البطاطا تعرف الجزائر مثلما الجزائر تعرف البطاطا).

وثيقة قانون الإعلام الجديد، مرّت حسب معالي وزير الاتصال على رجال قانون وقضاة ومحامين بارزين، كلّهم منحوه تأييده، وهذا يجرّنا إلى التساؤل : هل منحوه أفكارًا أم تأييدًا؟ ماذا يقصد بالتأييد؟ كان الأحرى به أن يبحث عن مثل هذا التأييد عند رجال الإعلام وليس عند رجال القانون، لأن مثل هذا التصريح يوحي بأن قانون الإعلام طُبخ في وزارة العدل وليس في وزارة الاتصال، لأنه من المفروض، أن يطرح رجال الإعلام أفكارهم في قالب يمكن تجسيده على أرض الواقع، ليأتي في الأخير رجل القانون ليراجع هذه الأفكار وينظر إن كانت تتطابق مع بقية قوانين الجمهورية الجزائرية أو تتعارض معها، كما أن رجال الإعلام و الخبراء الذين استشارهم معالي الوزير، هم في حقيقة الأمر شركاء وليسوا مستشارين، وعليه فمن باب اللباقة إعلامهم بالصيغة النهائية لقانون الإعلام عند إرساله إلى الوزارة الأولى، صحيح أن معالي الوزير ليس ملزَما بذلك إداريًا، لكن الأخلاق ومبادئ الديمقراطية تملي على وزارة الاتصال على الأقلّ إعلام من استشارتهم في الأمر، لأن تجاهلهم يعني أن حضورهم أملته ظروف سياسية أكثر ممّا تفرضه الرغبة في إحداث إصلاحات من أجل طفرة ديمقراطية حقّة ينشدها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.

عقوبات بالمجان

أكبر إساءة إلى هذا القانون، هي المادة 122، لأن هذه المادة تعاقب القرآن نفسه، فأكبر (مسيء) لكل الأديان هو القرآن، فالله سبحانه وتعالى يقول في الآية 19 من سورة آل عمران : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، كما قال العزيز الحكيم في الآية 64 من سورة آل عمران : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
فالقرآن الكريم يُلغي كل الأديان، وقانون الإعلام يعترف بها، وعليه، فإن نشر في أية صفحة دينية مثلاً بأن عيسى عليه السلام ليس إلها، معناه أنّه يحقّ لأي مسيحي أن يتأسّس كطرف مدني لمقاضاة الصحفي وإجباره على دفع 50 مليون سنتيم، باعتبار أنّ إنكار ألوهية المسيح عند المسيحيين هو تجنّي في حدّ ذاته على دينهم ومساس بعقيدتهم.

صحيح، أنه ليس هناك من يحترم أنبياء الله أكثر من المسلمين، لأن المساس بأي نبي هو مساس بالإسلام، وإذا كانت الجزائر وقّعت على الاتفاقيات الدولية الخاصة باحترام الديانات وحرية ممارسة الشعائر الدينية، فإننا نذَكّر أيضًا أنّ الدانمارك وبقية دول العالم أمضت هي الأخرى على نفس الاتفاقية، لكن عندما تعلّق الأمر بالرسومات المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، دافعت كل هذه الدول على الرسام الدانماركي باسم حرية التعبير، واعتبرت مساسه بالمقدّسات الدينية جزء من حرية التعبير، ولنا في (آيات شيطانية) مثالاً آخر لأمثلة عديدة لا تعدّ ولا تحصى.

خطأ آخر جسيم لم يتحرّر منه مشروع قانون الإعلام الجديد في مادته 137 التي تعاقب كلّ من يسيء إلى رؤساء الدول الأجنبية وأعضاء البعثات الدبلوماسية إلى غرامة مالية تتراوح بين ثلاثة ملايين و عشرة ملايين سنتيم، وهذه أضحوكة مبكية أخرى، فإذا كانت وسائل اعلام أمريكا تتناول وبالنقد والإساءة إلى رئيس أمريكا، وإذا كانت وسائل اعلام الدول الأوربية تتعرّض إلى رؤسائها وتتسلّل حتى إلى غرف نومهم، فإن قانوننا يحمي هؤلاء الرؤساء، ثم إن الكثير من وسائل اعلام الدول الأجنبية أساءت إلى العديد من رؤساء الجزائر، ولستُ هنا بحاجة إلى تقديم الأدلة لكثرتها، فلماذا نكبّل قلم الصحفي الجزائري على الأقلّ ليكتب بسياسة المعاملة بالمثل، ويدافع عن رئيس دولته الذي يمثّل رمزًا لكل الشعب الجزائري، والكلّ يتذكّر كيف أن صحافتنا لم تُحسن الدفاع عن الدبلوماسي الجزائري حساني، لأنه باختصار، لا يوجد قانون إعلام في الجزائر يوفر الظروف الممكنة التي تشجع وسائل الإعلام الجزائرية على طرح مثل هذا الموضوع من مختلف الجوانب وجعله قضية رأي عام يمكن أن يلعب دورًا ايجابيًا في صالح الدبلوماسية الجزائرية لكسب معركة قضائية وسياسية، لكن القضية مرّت على صفحات جرائدنا وكأننا نقرأ عن سقوط عمود كهربائي في بلدة جزائرية نائية.

إصلاحات بأدوات الماكياج

أعتقد أن الشيء الوحيد الذي يتّفق فيه الجميع مع معالي وزير الاتصال، أن مشروع القانون الجديد للإعلام مازال حقًا لم يبلغ صيغته النهائية، ومازالت تنقصه أشياء وأشياء حتى يعكس حقًا إرادة رئيس الجمهورية الجزائرية في تجسيد إصلاحات حقيقية، وليس مجرّد تعديلات طفيفة على قانون لم يتجاوزه الزمن فقط، لكنه قانون فشل فشلاً ذريعًا في تحقيق نهضة إعلامية حقيقية، وإذا كانت الإدارة تفخر بالأرقام التي بحوزتها، فعليها أيضًا النظر في الكمّ الهائل من الجرائد التي اختفت، والجرائد التي قُبرت، والجرائد التي أفلست حتى يكون التقييم قائمًا على منطق العين التي ترى بكلّ الألوان.

معالي الوزير للأسف، لم يشر للأشياء الجديدة الإيجابية التي يمكن أن نعثر عليها في الوثيقة الجديدة التي تحمل في رحمها قانون الإعلام الجديد، كما أن الموقع الرسمي للوزارة وللأسف، لا أثر فيه لهذه الوثيقة، وكنا نتمنّى أن تكشف لنا وزارة الاتصال كيف سيعمل هذا القانون على التغيير الجذري من الواقع البائس لإعلامنا، كيف سيعمل هذا القانون على الرفع من مستوى تلفزيوننا الذي اعترف هو شخصيا بأنه تلفزيون مثير للأعصاب، وكيف سيغيّر من محتوى قنواتنا الإذاعية التي مازالت حبيسة البوقالات والفال والأطباق كلما حلّ بنا شهر رمضان المعظم، وكيف سيحسّن من وضعية صحافتنا المكتوبة التي تتراجع يوميًا وانحطّ مستواها إلى درجة أن أصبح المواطن المحترَم يعتبر شراء جريدة يومية إهانة لكرامته.

توماس بين، قال : quot;أنه حين يطرق الرُقيّ باب أمة من الأمم يسأل أهنا فكر حر؟ فإن وجده دخل وإلا مضىquot;، ونحن نأمل أن يكون هذا المشروع بابا نفتحه أمام الرقي، وعلى الوزارة التخلص من ذهنية الحزب الواحد وممارساته حتى لا تنتج لنا قانونا بمقاس الحزب الواحد، وإن أرادت أن تفتح أبوابها أمام الرقي، فعليها قبلاً أن تفتح آذانها للرأي الآخر، لأن النقد يقوم بوظيفة التنبيه بأن الجسم يعاني من موقع غير صحي، وإن حق لمعالي الوزير أن يفخر بإنجازه، فنحن أيضا نفخر برفع شعار عمر الفاروق القائل : (لا خير فيكم إن لم تقولها، و لا خير فينا إن لم نسمعها منكم).



كلية العلوم السياسية والإعلام - جامعة الجزائر
[email protected]