بكل عناية لطخت السيدة (كلارا) شعرها بمعجون الأسنان ثم بدأت في تسريح شعرها ثم تناولت المشط فلاكته وحاولت قضمه وعندما فشلت في ابتلاعه ألقته من يدها وفي طريقها الى دورة المياه احتارت ماذا تفعل بالكرسي الخشبي الذي يقف في طريقها وعندما خرجت من البيت لم تعرف أن تهتدي الى البيت أبدا.
هذه اليوميات هي روتين الحياة لمريض (الزهايمرAlzheimer) الذي أصيبت بها الممثلة الأمريكية الشهيرة سابقاً (ريتا هايورث Rita Hayworth) عام 1941م وكذلك الرئيس الأمريكي (رونالد ريغان) عام 1992م.
أما الفنان الألماني (كارولوس هورن 1921 - 1992 Carolus Horn)الذي كان يعمل لوحاته الشهيرة للشركة الدوائية (نوفارتيسNovartis) فقد تراجعت موهبته في الرسم من لوحات رائعة الى أشكال باهتة تدريجياً انطفأ فيها اللون والخيال لينتهي قبل موته برسومات هي أقرب (للخربشة). كان دماغه يتآكل تدريجياً وتتدمر شبكاته العصبية بدون توقف.
يصاب بهذا المرض سنوياً (135) ألفاً في ألمانيا لوحدها وتتوقع رئيسة جمعية مرضى الزهايمر (سابينا يانسنSabine Jansen)(1) أن يصل رقم المصابين في عام 2010 الى (1,7 ) مليون مصاب.
أما مشكلة (العته الشيخي) فهو يصيب كل واحد من خمسة ممن تجاوزوا الثمانين ومع الرقم وقدر عدد المصابين في المانيا عام 1997 م (1,5) مليون مصاب ويتوقع أن يرتفع الرقم عام 2030 م الى 2,5 مليون معتوه أي بزيادة 60%. فهذه هي ضريبة مجتمع الرفاه وزيادة التقدم في السن.
لكن السؤال ماالذي يحدث في الدماغ وكيف يعمل وماهو الوعي وماهي الذاكرة؟
في البدء يعتبر مرض (الزهايمر) عرض الشيخوخة وآذان باقتراب الأجل لأن المملكة الاساسية للانسان تتلاشى. يبدأ المرض بصعوبة الوصول الى الكلمات وفقد التكيف ويصبح المريض مضطرباَ مشوش الذهن وتتلاشى الذاكرة القريبة. فإذا وضع مفتاحه في مكان نسي أين هو. وإذا ضرب موعداً أخلفه. وإذا خرج من البيت نسي أين المكان. أما ذكريات الطفولة فتبقى قوية حاضرة وهو مايلحظه في أنفسهم حتى العاديين بين ضعف الذاكرة القصيرة القريبة وثبات وتألق الذاكرة البعيدة.
عند الفنان الألماني (هورن) كانت مآسي الحرب العالمية الثانية حاضرة وهي التي خاضها وعانى منها وهو شاب في ثلوج روسيا. وفي النهاية يتلاشى كل العالم ويصبح موحشاً بارداً قفرا. ويضمر حجم الدماغ الى أكثر من 25% والمشكلة ليست في كتلة الدماغ بل في الشبكات العصبية التي تربط بين أوصاله.
روعة الدماغ ليست في وزنه فهو لايزيد عن كيلوغرام ونصف، ولكنه مزود بمائة مليار عقدة اتصالات. كل عقدة مترابطة بمالايقل عن ألف ارتباط مع الخلايا الأخرى وبعضها تصل فيها الارتباطات مائتي ألف كما في خلايا (بوركنج) في المخيخ حيث مركز التوازن. ويوصل البعض قوة الارتباطات هذه من وجهة نظر رياضية حسن قانون الاحتمالات لنيوتن الى رقم (الجوجول) أي الرقم عشرة مرفوع الى مائة ضعف، وهو مايزيد عن كل الجزيئات الموجودة في الكون التي تصل الى حوالي عشرة قوة ثمانين.
نحن في العادة نتعلم من خلال فتح شبكات جديدة وبالنسيان تنفك هذه الاتصالات وعند تذكرها يحصل كما في طرق سلكها صاحبها من قبل فيلجها بسهولة.
ومايحدث في مرض الزهايمر هو تدمير هذه الشبكات العصبية من الوصل بين المعلومات ويعالج المرضى اليوم بعقار كليوكينول (Clioquinol) الذي تم سحبه من السوق قبل ثلاثين عاماً بسبب أعراضه العصبية الجانبية، ويطبق حالياً على عشرات المرضى في جامعة هارفارد في بوسطن.
لعل أهم الأبحاث التي تنتظرنا في هذا القرن الحادي والعشرين تحوم حول عشرة مواضيع هي الأهم مثل (1) طب الغد (2) الانفجار السكاني والمصادر المحدودة (3) عصر المعلومات (4) كوكب الأرض والثروة المهددة (5) مستقبل الاقتصاد (6) التقنية ومصانع المستقبل (7) السياسة العالمية (8) مستقبل الثقافة (9) عوالم الحياة المستقبلية.
كما أن أكثر المواضيع إثارة هي (10) حدود المعرفة الذي يمكن أن تتضمن بدورها أربعة أبحاث عن (1) سر الحياة (2) سر الأبداع (3) مستقبل الأديان العالمية (4) الدماغ والوعي. وفي الواقع فإن وضع اليد على (فهم كيف نفهم؟) هو مفتاح التحكم في الانسان.
وهناك من يطمح الى ذلك كما في جماعة (مدرسة علم النفس السوكي) التي مثلها (ب. ف. سكينر) في كتابه (ماخلف الحرية والكرامة Beyond Freedom and Dignity) خير تمثيل وترجم الى العربية تحت عنوان (تكنولوجيا السلوك الانساني ).
يقول (سكينر B.F.Skinner) :(مانحتاجه هو تكنولوجيا للسلوك فحينئذ يمكننا أن نحل مشكلاتنا بسرعة معقولة إذا مااستطعنا ضبط نمو سكان العالم بالدقة نفسها التي نضبط بها مسار سفينة فضاء، أو تحسين الزراعة والصناعة بشيء من الثقة التي نسرع بها ذرات الطاقة العالية، أو السير نحو عالم ينعم بالسلام بشيء شبيه بالتقدم المطرد الذي تقترب به الفيزياء من الصفر المطلق) ولكن سكينر يستدرك مدى الصعوبة التي تقف أمامه فيعقب: (غير أن تكنولوجيا السلوك التي يجب أن تضاهي في القوة والدقة التكنولوجيا الفيزيائية والبيولوجية غير موجودة)(2).
وإذا كان سكينر قد اعتبر أن الكرامة وهم والعقل أعمى فإن (سنجر Singer) رئيس معهد (ماكس بلانك لأبحاث الدماغ) في فرانكفورت لايرى في (الارادة الانسانية) أكثر من تركيبة ثقافية(3).
تصب الجهود العلمية اليوم في حقل (العلوم العصبية) لاكتشاف أسرار الدماغ سيد العالم، وهو ماجعل رئيس أمريكي سابق يصرح:(إن عالماً تحتل فيه الأبحاث العصبية مكان العرش وجب أن يعلو هامته تاج أمريكي).
واليوم وتحت (ظاهرة التفكيك) يحاول العلم فهم الكون في أبسط تركيباته بدء من الذرة ومرورا بالخلية وتركيب الدماغ وانتهاء بهندسة المجرات. فمنذ نهاية القرن الفائت تلاحقت الانتصارات العلمية في اختراقات فضاءات معرفية شتى فاكتشف (رونتجن) الأشعة السينية عام 1895 م وكان أول من نال جائزة نوبل عليها. وفي عام 1896 م اكتشف (بكريل) النشاط الأشعاعي. وفي عام 1897 اكتشف (طومسون) الالكترون. وفي 1898 م عزلت عائلة (كوري) الراديوم. ووضع (ماكس بلانك) عام 1900 م قانون (الجسم الأسود) وطور (ميكانيكا الكم). وتقدم (آينشتاين) بنظريته في النسبية الخاصة عام 1905 م. وفي عام 1911 وصل (رذرفورد) الى معرفة البروتون وانه إيجابي الشحنة يعادل الالكترون ولكنه أثقل منه بـ 1836 مرة واقترح نظاماً خاصاً لتركيب الذرة يشبه النظام الشمسي تستقر في المركز منه البروتونات وتطوف حولها الالكترونات مثل الكواكب حول الشمس.
وهذا بدوره طوَّره (سومر فيلد) عام 1938 بدوران الالكترونات على شكل أهليلجي كما في دوران الكواكب في نظامنا الشمسي. وفي عام 1932 م كشف (شادويك) عن (النترون الحيادي) الذي يعمل كملاط في تماسك البروتونات بسبب التدافع بين الشحنات المتشابهة فيمسك نواة الذرة أن تزول (4).
وكما يقول (برونوفسكي) صاحب كتاب (ارتقاء الانسان) عن أبطال الفيزياء الذرية بدء من مندلييف وهو يخلط بطاقات عناصره المعدنية فإن (طومسون قلب الاعتقاد الأغريقي القائل بأن الذرة لاتنقسم. أما رذرفورد فحول الذرة الى نظام شمسي. ونيلزبور جعل ذلك النموذج يعمل، وشادويك مكتشف النترون، وفرمي استعمل ذلك النترون لفلق النواة وتحويلها الى عناصر أخرى. ويأتي في مقدمة هؤلاء ماكس بلانك الذي أعطى الطاقة المفهوم الذري كالمادة ولودفيغ بولتزمان الذي يعود اليه الفضل أن جعل الذرة شيء حقيقي كالعالم الذي نعيش فيه)(5).
تابع العلم سيره نحو أدق الدقائق فبنى المسرعات النووية تحت أرضية بحقول مغناطيسية كما في مفاعل (سيرن CERN) الأوربي لتكسير البنى دون الذرية لمعرفة اين تنتهي هذه رحلة العالم الأصغر ومازال اليوم عند حافة (الكواركز) المكونات الأولية للبروتونات واللبتونات في الالكترونات. كما أمكنه تركيب (مضاد المادةANTIMATERIAL) التي هي الذرة نفسها مقلوبة الشحنة ببروتون سلبي والكترون موجب أخذ اسم البوزترون.
لقد حاولت أمريكا أن تأخذ سبق القصب في تفكيك البناء الذري أكثر من غيرها فعمدت الى الانطلاق بمشروع (ماموت) في بناء مسرع نووي بكلفة خيالية وصلت الى 11 مليار دولار ثم وقفت عن متابعته بسبب الكلفة الباهظة لمشروع أكاديمي غير مغري. ثم أخذت الأبحاث العلمية مجرى جديدا في شق الطريق الى أدق الدقائق في البيولوجيا وهكذا تم تفكيك الجينوم البشري ماعرف بالقنبلة البيولوجية. وبالمناسبة فالعمل عليه هو في (لوس آلاموس) نفس مكان إنتاج السلاح النووي وتم فك كامل الخريطة الوراثية عند الانسان مع نهاية عام 2000 م كما أعلن ذلك (كريج فنترCraige Venter). والعلماء بصدد رسم خرائط كاملة لكل المخلوقات.
نحن نعلم اليوم أن الكود الوراثي عند الشمبانزي لايختلف عن الانسان بأكثر من واحد بالمائة1%. ولكن القفزة النوعية للانسان هي في هذا الفارق المكون من ثلاثين مليون حامض نووي إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الشريط الوراثي مكون من ثلاث مليارات حامض في النواة. ونحن نعلم أيضاً أن تركيب الخلية أعقد بكثير مما نتصور.
إذا علمنا أن رحلة الحياة كانت في أصعب صورها وأطولها باتجاه تطوير وحدة الحياة الأولى الخلية بدون نواة ثم الخلية بنواة مع كود وراثي يكرر إنتاج نفسه على نحو مذهل يقدره العلماء بنسخ تبلغ 500 بليون نسخة في اللحظة بدون خطأ واحد. فإن هذا يلقي الضوء على أهمية فهم أسرار الخلية. وتفيد المعلومات الكوسمولوجية أن الانفجار العظيم بدأ قبل 15 مليار سنة وبدأت مسرحية الوجود في التشكل. فولدت الذرات على مراحل قبل اكتمال نضجها وتوازن شحنتها. ثم ولدت مجرتنا قبل 8 مليار سنة ثم ظهر الى الوجود النظام الشمسي قبل خمسة مليار سنة. أما تشكل الأرض فكان قبل 4,6 مليار سنة. ولم يكن هناك حياة. وبعد ذلك بفترة 800 مليون سنة بدأت رحلة الحياة بوحيدات الخلية لمدة ملياري سنة قبل ظهور عديات الخلايا.
هذا يعطينا فكرة عن مدى التطابق بين الكائنات الحية والبيئة وأي تلاعب في هذا التوازن يؤدي الى مخاطر كبيرة وهو الذي يظهر سواء في السرطان أو مرض الزهايمر الذي تحدثنا عنه أو انفجار فيروس الايبولا من الغابة العذراء.
نحن لم نفهم آليات الحياة بعد وأحياناً نلعب ونلهو كالأطفال. يقول (اسحق نيوتن):(لست أدري كيف أبدو بالنسبة للعالم بيد أني أبدو لنفسي كطفل يلهو على شاطيء البحر يتسلى بين الفينة والأخرى باكتشاف حصاة أنعم أو صدفة أجمل بينما يقف محيط الحقيقة بأكمله غامضاً غير مكتشف أمام ناظري)(6).
ويقول العالم سنجر من معهد (ماكس بلانك) في فرانكفورت: (يجب أن لانستخف بتعقيد الدماغ) وهو يعني حقاً مايقول أمام الشبكات العصبية اللانهائية التي تربط بين مائة مليار نورون و300 مليار خلية دبقية مساندة في الدماغ. وهو ماجعل مجلة البعض يطلق عليه (الكون المحشو في دماغناDAS UNIVERSUM IM KOPF ).
ماهو الوعي تحديداً هل هو وهم كما تقول المدرسة السلوكية؟ هل له مكان تشريحي محدد في الدماغ؟ أم هو وظيفة مرافقة للنشاط المادي، كما جاء في تعبير (توماس هكسلي Thomas Huxley) من القرن التاسع عشر:
(يبدو أن الوعي متصل بآليات الجسم كنتيجة ثانوية لعمل الجسم لا أكثر وأن ليس له أي قدرة كانت على تعديل عمل الجسم مثلما يلازم صفير البخار حركة القطار دونما تأثير على آليتها)(7) أم هو كائن يتحرك فينا كالشبح منفصل عن المادة؟ هذا مايحاول العلم غوص لججه الآن.
ـــــــــــــــــــــــــــ
مراجع وهوامش (1) مجلة در الشبيجل الألمانية عدد 1 \ 2001 ص 161(2) تكنولوجيا السلوك الانساني ـ ف. ب. سكينر ـ ترجمة عبد القادر يوسف ـ سلسلة عالم المعرفة رقم 32 ص 6 ـ 7 (3) انظر المقابلة المطولة في در الشبيجل عدد 1 \ 2001 ص 154 ـ 160 (4) رموز الكون (الفيزياء الكمية كلغة للطبيعة) ـ تأليف هاينز باجلز ـ ترجمة محمد عبد الله البيومي ـ الدار الدولية للنشر والتوزيع ص 33 (5) ارتقاء الانسان ـ برونوفسكي ـ ترجمة موفق شخاشيرو ـ سلسلة عالم المعرفة رقم 39 ص 270 (6) ارتقاء الانسان ص 184 (7) (العلم في منظوره الجديد) المترجم عن (The new Story of Science) من سلسلة عالم المعرفة رقم 134 تأليف روبرت. م. آغروس وجورج.ن. ستانسيو ـ ترجمة كمال خلايلي ص 26