في مقابلة لي مع احد اهل الصدق في مدينة دبي منذ اكثر من 10 سنوات، حدثني الرجل عن مغامرته التونسية و في مدينة سيدي بوزيد تحديدا. حدثني كيف ذهب الى هناك ممثلا للمنظمة العربية للتنمية الزراعية للمساهمة في تمويل مشروع ضخم و متكامل لتربية الابقار و انتاج الحليب و مشتقاته، وهو مشروع كان من المفترض ان يوفر الاف مواطن العمل. لكن بيروقراطية الدولة ممثلة في بنك الجنوب المملوك من طرف الحكومة عمل على عرقلته، فتم القضاء عليه في المهد.
مع تعاظم الانتفاضة الشعبية في تونس في بداية شهر يناير 2011، قابلت هذا الرجل و في نفس المكان بالصدفة، و كانت اول ملاحظته لي: لو عرف مشروعنا للابقار و الحليب النور في سيدي بوزيد لما حصل في تونس اليوم ما حصل.
اليوم و الحكومة التونسية المنتخبة تعطي التنمية الجهوية اولوية كبرى، من المهم ان تبدا العمل من مهد الثورة التونسية ndash;سيدي بوزيد- و من ذات المشاريع التي تم اعدادها في ظل النظام السابق، و التي لم تر النور لسبب او لاخر، و ذلك بالرجوع لاصحاب و ممولي هذه المشاريع، حتى لا نعيد اختراع العجلة من جديد.
ما ينطبق على سيدي بوزيد ينطبق بطبيعة الحال على باقي مناطق الوسط الغربي التي تتوفر فيها الامطار و امكانيات الانتاج الزراعي و الحيواني، لكن الاستغلال الافضل لموارد هذه المناطق يتطلب ايضا مراجعة نظام ملكية الاراضي الزراعية، خصوصا الاراضي المملوكة للحكومة، اي تركة قرار تاميم الاراضي الفلاحية التي كانت على ذمة quot;المعمرينquot; الفرنسيين ايام الحماية الاستعمارية، و التي تمثل طريقة تاميمها و الابقاء عليها في عهدة بيروقراطيبة الدولة احد اكبر الاخطاء الاقتصادية لدولة الاستقلال.
كما انه من المهم ان تندرج التنمية الجهوية لبوزيد و ما جاورها في ظل تنمية المنطقة باكملها، بما في ذلك الحوض المنجمي الذي بامكانه تطوير صناعات تعتمد على المواد الاولية التي تنتجها مناجم الفسفاط، و مناطق السياحة الصحراوية التي بامكانها جلب مليارات الدولارات استثمارات اجنبية. و ميزة هؤلاء المطورين لا تقتصر على توفير التمويل بل تتعداه لتقديم مشاريع ذات قيمة مضافة، مثل المشاريع الترفيهية و الخدمات الاستشفائية، كما ان لهم قدرة افضل على التسويق لمشاريعهم في الخارج و استقدام السياح الاجانب.
تنمية الوسط الغربي في تونس سوف تتطلب ايضا الاستثمار في البنية التحتية، بدءا ببناء شبكة طرقات سريعة تربط الجهة بالمناطق الساحلية و مدينة تونس العاصمة. و لا داعي هنا لاهدار المال العام في هكذا مشاريع مكلفة، و الحال ان الاستثمار الخاص قادر ذلك، خصوصا الشركات العالمية المتخصصة في هذا المجال.
اخيرا و ليس اخرا، اعتقد ان الصديق اعلاه اخطا في القول quot;لو تم تنفيذ المشاريع التنموية في سيدي بوزيد لما انطلقت الانتفاضة.quot; كما هو معلوم اليوم، الشاب محمد البوعزيزي لم يطلق شرارة الانتفاضة لانه لم يجد عملا، بل انتحر نتيجة الابتزاز الذي تعرض له من طرف اعوان البلدية لانه لم يكن يملك الترخيص اللازم لمزاولة مهنته بصفة قانونية، ما يعني اهمية دمج ما يسمى بالاقتصاد الموازي في القطاع المنظم. في مصر تم تدارس هذه المسالة عن طريق الخبير العالمي quot;هيرناندو دي سوتوquot; مؤسس مركز الحرية و الديمقراطية بليما ndash; البيرو. لكن حكومات مبارك المتعاقبة فشلت في التنفيذ مما ادى الى سقوط النظام. في تونس، يبدو ان بن علي لم يكن له علم بالمسالة ، لذلك فقد ترك الحبل على الغارب بحيث اصبجت حصة الاقتصاد الموازي تفوق ثلث الاقتصاد الاجمالي، و وجد 36% من البطالين انفسهم في نفس وضعية محمد البوعزيزي الهشة.
بعد الثورة، قام هيرناندو دي سوتو بزيارة تونس و حاضر فيها، لكننا لم نر الى الان خطة جدية للتنفيذ، كما لم نسمع عن خطة مصرية في هذا الشان. فهل سترتكب حكومات الثورة في تونس و مصر نفس اخطاء الانظمة البائدة التي قامت على انقاذها، و تكون نهايتها بناء على ذلك كنهاية الانظمة الساقطة؟ الاشهر و السنوات القريبة المقبلة سوف تجيبنا على هذا السؤال.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات