دعا مجلس إدارة البنك المركزي التونسي إثر اجتماعه الاستثنائي الأخير إلى quot;تعزيز استقلالية البنك المركزي التونسي إزاء السلطات السياسية التنفيذية لتمكينه من القيام بمهامه بنجاعةquot; منبها من quot;أن مشروع قانون التنظيم الوقتي للسلطات العامة في تونس يتجه نحو جعل البنك المركزي خاضعاً لسلطة الحكومة، خلافاً لما كان منتظراً من تعزيز لاستقلاليته حتى يتمكن من تأمين المهام الموكلة إليه في المجال النقدي والبنكي، بالنجاعة المطلوبةquot;. و دعا مجلس إدارة البنك المركزي إلى quot;دعم هذه الاستقلالية بتضمينها بالقانون المنظم للسلطات العمومية وكذلك في الدستورquot; مؤكدا على ضرورة تحديد الجوانب التي ترتكز عليها هذه الاستقلالية، و بالخصوص ضوابط تعيين وإنهاء مهام محافظ البنك وتعيين أعضاء مجلس الإدارة وآليات التدخل والمراقبة وآليات المساءلة وتقييم أداء البنكquot;. فهل البنك المركزي التونسي محق في طلبه هذا؟ و ما هي الفوائد المرتقبة من وجود مصرف مركزي مستقل؟ أو بلغة أخرى ما هي المخاطر المحتملة نتيجة عدم توفر هذه الاستقلالية؟
تتمثل أهم المخاطر المتأتية من مصرف مركزي فاقد للاستقلالية في إتباعه سياسة ائتمانية و نقدية تستجيب لطلبات الحكومة لكنها لا تخدم بالضرورة مصلحة الاقتصاد الوطني، مثل تمويل العجز المالي للحكومة أو زيادة القروض الممنوحة لبعض الأنشطة التي تعتبرها بيروقراطية الدولة ذات الأولوية، و هي إجراءات ما كان المصرف المركزي ليتخذها على الأرجح لو كان أعضاء مجلس إدارته يتمتعون بالاستقلالية.
في المقابل، من المتوقع أن تعزز استقلالية المصرف المركزي مصداقية السياسات و القرارات التي يعلن عنها (مثل النسبة المستهدفة لسعر الفائدة أو لنسبة التضخم)، بحيث تصدقها الأطراف الفاعلة في الأسواق و تعتمد عليها في تحديد توقعاتها، ما من شانه إزالة الضبابية و درجة عدم اليقين. لهذه الأسباب كانت استقلالية المصرف المركزي محل دراسات مستفيضة في الأوساط الأكاديمية حتى في الفترة التي كانت فيها هذه الاستقلالية شبه منعدمة على ارض الواقع.
يمكن تحقيق استقلالية المصرف المركزي على المستوى القانوني، أي بتضمينها في قانون أساسي للمؤسسة، و كذلك في دستور البلاد، وان كانت الديمقراطية تقتضي في هذه الحالة خضوع المصرف المركزي للسلطة التشريعية المنتخبة (مثل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي المسئول أمام الكونجرس لا أمام السلطة التنفيذية). كما يمكن أن تكون الاستقلالية على مستوى الأهداف التي يرسمها و يعلن عنها المصرف المركزي (مثل النسبة المستهدفة لزيادة عرض النقد أو نسبة التضخم)، وهي عملية معقدة و تتطلب التنسيق بين المصرف المركزي و المسئولين عن إعداد الموازنة العامة للدولة.

أما الاستقلال على المستوى التشغيلي فهو يعني حرية المصرف المركزي في تحديد الأدوات التي يستعملها لتحقيق الأهداف المعلنة التي قد يقررها طرف آخر، كما هو الحال مع بنك انجلترا الذي يحدد نسبة أسعار الفائدة التي من شانها تحقيق نسبة التضخم المستهدفة التي يقررها وزير الخزانة. بينما تعني الاستقلالية على مستوى إدارة المؤسسة الاستقلال المالي و طريقة تعيين أعضاء مجلس الإدارة
- بما في ذلك المحافظ - و باقي الموظفين بما يمكن المؤسسة من الحصول على الخبرات التي تحتاجها، لا التي يتم تعيينها بناء على اعتبارات الولاء السياسي، و التي أوصلت المصارف المركزية العربية و القطاعات المصرفية و المالية في دولنا إلى ما هي عليه اليوم.
لقد كلفنا عدم استقلال المصرف المركزي في تونس و سائر الدول العربية الأخرى غاليا، بحيث تحولت هذه المؤسسات إلى جهاز إسناد مالي للحكم، يوجه منح القروض و التحويلات المالية إلى الخارج خدمة لمصالح دوائر ضيقة من المقربين و النافذين، مما أساء كثيرا لطريقة التصرف في الموارد المالية الوطنية و كون عامل ضغط لحماية بنوك القطاع العام من المنافسة، لذلك يتوجب منح الاستقلالية الكاملة للمصرف المركزي، كما ورد في الحالة التونسية المنوه عنها أعلاه، مع مراجعة وضعية بنوك القطاع العام و بيع غير الضروري منها للمؤسسات الدولية ذات الكفاءة و الخبرة العالية في هذا المجال، و السماح للبنوك الأجنبية بفتح فروع لها داخل الدولة لتقديم الخدمات المالية الراقية التي تعود بالنفع على الاقتصاد الوطني ككل.
و العقل ولي التوفيق...