دارت في الأسابيع الأخيرة نقاشات حادة حول الوضع في المملكة الأردنية الهاشمية على صفحات موقعنا (إيلاف) المنفتح لكافة الآراء التي مع أو ضد أو في الوسط من الموضوع ذاته. وقد كانت حدة النقاشات خاصة التعليقات من القراء وردودهم على بعض من الحدة التي لا تترك قاسما مشتركا بين هذه الآراء. وأنا أرى أنّ هذا الخلاف الحاد يدلّ على أهمية موقع الأردن جغرافيا وسياسيا. جغرافيا لأنّه محاط من أغلب الجهات بمناطق توتر مشتعلة سواء الحدود مع سوريا أو العراق أو الضفة الغربية بسبب الاحتلال الإسرائيلي. وسياسيا أيضا بسبب الاحتلال الذي يحاول دوما صبّ الزيت على النار لتأجيج المشاعر الإقليمية من خلال تكراره لفزاعة الوطن البديل التي فنّدتها في أكثر من مقالة، كانت آخرها مقالتي بعنوان (لا.. ليس وطنا بديلا، ولم نكن نياما) بتاريخ العاشر من فبراير 2012 . لا أعتقد أن قطرا عربيا يعيش هذا الوضع الاستثنائي غير الأردن، مما يحتاج لمناقشة وتحليل موضوعي يبتعد عن تخوين الحراك الشعبي أو تهديد النظام الملكي الهاشمي الذي حافظ على وحدة المملكة طوال ما يزيد على سبعين عاما رغم تعدد المنابت والأصول التي انخرطت معا عبر الجوار والزواج والحياة المشتركة برخائها وشقائها، بحيث ما عاد لأحد الحق أن يدّعي أنّه أردني والآخر غير أردني.

ومن المهم التذكر والتمعن في مطالب كافة الحراكات الشعبية الأردنية المتواصلة بدون توقف ، بما فيها الحراك التابع لجماعة الإخوان المسلمين وحزبهم السياسي (حزب جبهة العمل الإسلامي)، إذ يقولونها صريحة على لسان الجميع من قياداتهم (حمائم وصقور): نحن لا نريد تغيير النظام الملكي الهاشمي لأنّه المظلة الجامعة الحامية لكافة نسيج المجتمع الأردني، وكل مطالبهم المحقّة تتلخص في إصلاحات حقيقية جذرية في كافة ميادين الحياة الأردنية. وأعتقد أنّ النسبة الأعلى من مطالب الإصلاحات هذه تتركز في القطاع الاقتصادي والبرلماني أي انتخابات نزيهة بدون تدخل أية جهات رسمية لتوجيهها لمصلحة معينة بعيدة عن إرادة الشعب ومطالبه المشروعة. وهذه حقيقة فضمن خصوصيات المجتمع الإقليمي حيث تعدد المنابت والأصول والعشائر بتحالفاتها وتناقضاتها، يظلّ النظام الملكي الهاشمي هو المظلة الوحيدة التي يمكن أن تجمع كل هذا الشمل في ظل سقف وطن واحد متماسك خاصة أنّ موقع الأردن الجغرافي، يجعله على الدوام في مواجهة أخطار متعددة، طالما لم تحلّ القضية الفلسطينية عبر الحل الوحيد الذي يرضاه الفلسطينيون ويريده الأردنيون، وهو قيام دولة فلسطينية مستقلة لها سيادة كاملة ضمن الحدود التي يقبلها ويحددها الفلسطينيون دون غيرهم.

ما هي هذه الخلفية الاقتصادية؟

المتابع لحراك الربيع الأردني يلحظ أنّه في غالبيته مطالب اقتصادية هدفها تحسين أوضاع العاملين والموظفين وزيادة رواتبهم لمواجهة أعباء الحياة اليومية في ظل الغلاء الذي لا يتناسب مع مستوى دخل الفرد الأردني. لذلك فأغلب مظاهر هذا الربيع الأردني تتمركز في ثلاثة مظاهر: الاعتصامات أمام الوزارات أو الديوان الملكي، المسيرات خاصة يوم الجمعة وبعد صلاة الجمعة، أو الإضراب عن العمل كما تفعل نقابة المعلمين التي تمّ الترخيص لها حديثا. ومن المهم ملاحظة سلمية التعامل الأمني الرسمي مع هذه المظاهر الثلاثة، حيث لم نشهد أو نسمع أية نسبة من العنف الذي شهدته عدة أقطار عربية عاشت هذا الربيع وما زالت. وقد كانت تصريحات وزير المالية الدكتورأمية طوقان حول الوضع الاقتصادي في المملكة صادمة إذ وصفه ب quot;الخطيرquot; يوم الاثنين العشرين من فبراير الحالي. ما هي الأسباب الرئيسية لهذا الوضع الاقتصادي الخطير الذي لا يتحمل غالبية الشعب الأردني أعباءه الحياتية اليومية؟.

1 . السبب الأول هو جغرافي لا علاقة للحكومة أو الشعب به، كون الموقع الجغرافي للمملكة لا يتوفر فيه موارد طبيعية كافية بما فيها المياه التي هي عامل أساسي في جوانب عديدة من حياة المواطن. هذا رغم أنّ العديد من دراسات المتخصصين الأردنيين تتحدث بتفاؤل عال عن وجود لعدد كبير وكميات وفيرة من هذه الموارد الطبيعية التي تحتاج للجهد والوقت والمهارة والمال لاستخراجها واستغلالها. ولمزيد من المعلومات المنسوبة للخبير الجيولوجي الأردني جورج حدادين، يمكن العودة لهذه الدراسة المنشورة في صحيفةquot;السبيلquot; اليومية الأردنية بتاريخ الثالث عشر من مايو 2008 .اضغط هنا

2 . السبب الثاني كما أراه لم يسبق أن تركزت دراسات حوله خاصة فيما يتعلق بكمية الأعباء التي يتحملها الاقتصاد الأردني من جراء هذا السبب. وهو الهجرة العربية من الدول المجاورة بسبب ظروف الحرب وانعدام الأمن كالعراق أو العمالة الوافدة خاصة من الجارة مصر. وفيما يتعلق باللاجئين العراقيين الذين لا ذنب لهم أو عليهم في مغادرة العراق بسبب العنف والقتل اليومي الذي لم يتوقف منذ العام 2004 بل يزداد يوميا، فقد قدّرت المفوضية السامية العليا للاجئين بالأمم المتحدة عام 2008 أن عددهم في الأردن حوالي نصف مليون نسمة. أمّا موقع quot;عمونquot; الأردني فقد قّدر عددهم في تقرير له منشور في أكتوبر 2010 بسبعمائة وخمسين ألف مواطنا عراقيا. والمبكي أنّ الأعداد التي عادت منهم إلى العراق من الأردن أو سوريا نسبة عالية منهم نادمة على عودتها، رغم أنّ حياتهم في الأردن وسوريا من الناحية الاقتصادية والمعيشية صعبة للغاية، وأنا شخصيا متأكد من هذا من خلال معرفتي بأصدقاء صحفيين عراقيين في الأردن منذ ما يزيد على سبع سنوات، فليس كل من غادر العراق مضطرا إلى الأردن كان يحمل معه ملايين الدولارات فتلك فئة بسيطة لا تتعدى العشرات. والدليل على عدم العودة هو أننا في النرويج نشهد هجرة دائمة من العراق، ولم يعد للعراق سوى اشخاص قلة ممن حصلوا على الإقامة في النرويج منذ سنوات، وبعض هذه القلة ترك العراق وعاد للنرويج.

كم يتحمل الاقتصاد الأردني من أعباء من جراء ذلك؟

وأنا مسبقا أقول للجميع أنني أتعاطف مع أهلي وأحبتي العراقيين وأقدّر الظروف التي ألجأتهم لذلك، ولسوء حظهم وحظ الأردنيين معا، أنّ الوضع الاقتصادي في الأردن لا يستطيع توفير حياة كريمة لهم، فهذا عبء كبير لو قمنا بحسبة بسيطة عن كمية الماء والخبز والرعاية الصحية فقط التي يحتاجها هذا العدد من الإخوة العراقيين الذين فعلا لا يستحقون هذا الوضع الصعب من الحياة. والسؤال المبكي : هل فكّر المالكي وحكومته وهو يستعد لولاية حكم ثالثة، ماذا فعلوا في العراق كي يظلّ ملايين من العراقيين لاجئين في دول عربية وأوربية بالملايين تاركين وطن النفط والمياه؟. هل تستحق هذه الملايين من العراقيين هذه الحياة بعيدا عن وطنهم الغني بكل شيء؟.

دور التربية والعادات الأردنية في العبء الاقتصادي للدولة

تحتاج هذه النقطة لصراحة غير المقصود منها الإساءة لأحد، ولكنها الحقيقة إذ أنّ المواطن الأردني ما يزال يأنف العمل في بعض الأعمال مثل الزراعة والبناء وتعبيد الطرق والنظافة، مما فتح الباب للعمالة الوافدة خاصة من الشقيقة مصر، إذ يقدّر عدد العمال المصريين في الأردن حسب العديد من الاحصائيات بما لا يقل عن ربع مليون عامل، ويكفي أنّ السفير المصري في الأردن عمرو أبو العطا، كان قد أعلن في السادس والعشرين من يناير 2012 عن إتمام السفارة تصويب اوضاع 57 ألفا من العمال المصريين داعيا البقية إلى السرعة لإتمام اجراءات تصويب أوضاعهم. وأيضا علينا الإقرار بحقيقة أنّ هؤلاء العمال أيضا يعيشون أوضاعا صعبة، ولكن طرح هذه النقاط لا أقصد منه الفرقة والتفريق بين أبناء (أمة عربية واحدة إن وجدت)، ولكن فقط لتوضيح كم يتحمل الاقتصاد الأردني من وجود ما يقارب المليون من الإخوة المصريين والعراقيين. طبعا وبصدق أنا اتمنى لو أنّ الأردن بلد غني ويوفر أطيب العيش لهم وللأردنيين، ولكن للأسف الكل يعيش أوضاعا صعبة نتيجة هذه الظروف. وما سيزيد الوضع صعوبة هو بدء تدفق الإخوة اللاجئين السوريين إلى شمال الأردن هربا من قمع النظام الدموي المتواصل منذ عام تقريبا. وحسب تصريح مصدر رسمي أردني لصحيفة الغد الأردنية يوم الاثنين الحادي والعشرين من فبراير الحالي، بأنّ عدد اللاجئين السوريين إلى الأردن بلغ حوالي 78 ألف لاجىء، وهذا عبء جديد يضاف لمصاعب الاقتصاد الأردني.

3 . السبب الثالث للوضع الاقتصادي الأردني الصعب الذي هو سبب رئيسي من أسباب حراك الربيع الأردني هو الفساد، وهذا ليس سرا بدليل تشكيل quot;هيئة مكافحة الفسادquot; الرسمية منذ سنوات، وإحالة العديد من قضايا الفساد لها أو للنيابة العامة، كان آخرها قضية مدير المخابرات العامة السابق محمد الذهبي، وما نشر من هذه القضية حتى الآن هو تبييض أموال بحوالي خمسين مليون دولار فقط.

الخلاصة التي تهدف لها هذه المقالة،
هي أنّ الحراك الشعبي الأردني المتواصل محقّ في مطالبه، ويمكن تحقيق نسبة عالية من هذه المطالب تدريجيا بالحوار البناء الجاري ميدانيا الذي ياخذ في الاعتبار:
1 . ما حقّقه الأردن طوال الخمسين عاما الماضية في البنية التحتية خاصة التعليم والصحة قياسا بدول عربية غنية جدا.
2 . دور الأردن ومكانته حسب موقعه الجغرافي في ترسيخ منهج الاعتدال في منطقة عربية يغلب عليها التوتر والتطرف. ويكفي أنّ التعددية الحزبية التي يعيشها الأردن منذ عام 1989 لا مثيل لها في الوطن العربي، رغم أنّه تم استغلالها بطريقة حزبية لا تخدم الوطن والمواطن، فما معنى وجود ما لا يقل عن خمسة وعشرين حزبا مرخصا بين شعب لا يتعدى ستة ملايين نسمة؟. مع عدم القفز على حرية التعبير التي لم تترك رأسا في الحكومة أو الدولة إلا طالته بالنقد القاسي والجارح أحيانا بما فيهم أمراء من العائلة الملكية، وهذا من النادر حصوله في الأقطار العربية دون معاقبة الصحفي أو الكاتب أو السياسي صاحب ذلك النقد.
3 . دور كافة مكونات المجتمع الأردني من كل المنابت والأصول في بناء هذا الوطن والمحافظة على استقراره رغم كل التحديات التي أشرت إليها، فلا يحق لأحد أن يدّعي أنّ ذلك المنبت والأصل هو من بنى الأردني اقتصاديا أو تعليميا أو صحيا..إلخ.
وهناك تذكير لا بد منه وهو الأزمة الاقتصادية العالمية التي تكاد تسود غالبية دول العالم، ومنها ما هو على وشك إعلان إفلاس الدولة بكاملها مثل اليونان، رغم هذا التحرك الأوربي الدائم للحيلولة دون ذلك. ورغم ذلك هناك دراسات أردنية تؤكد بإمكانية الحد من هذه المخاطر الاقتصادية التي أشار إليها وزير المالية الأردني، من خلال مسألتين أساسيتين: الحد من نفقات كبار الموظفين والوزراء، والبت في العديد من قضايا الفساد المرفوعة علنا وإعادة أموالها لخزينة الدولة والشعب. وليس الأردن وحده الذي يعيش هذا الوضع الاقتصادي الصعب بل أقطار عربية عديدة، ولكن ينقص (أمة عربية واحدة) نفس التحرك الأوربي الذي أشرت إليه.
[email protected]