أخيراً وبعد ثمانية عقود من الانتظار الممل والقاتل حقق الإخوان المسلمون هدفهم الأول بالوصول إلى سدة الحكم في مصر. نجح الإخوان في بداية العام الجاري في الحصول على غالبية مقاعد مجلسي البرلمان، وتولوا رئاستيهما ورئاسة معظم لجانهما المهمة. ثم شكل الإخوان، بمعرفتهم، اللجنة التأسيسية المنوط بها كتابة الدستور المصري الجديد. وها هم أخيراً يكللون نجاحاتهم بترشيح نائب مرشد جماعتهم خيرت الشاطر لرئاسة الجمهورية حتى يتمكنوا فعلياً من السيطرة كل منافذ الأمور الحيوية في مصر عبر السلطة التنفيذية. نجاحات مبهرة حققها الإخوان في زمن قياسي وبأقل خسائر ممكنة لهم. نجاحات لم يكن يحلم بها أكثر المتفائلين في جماعتهم التي حظرت من ممارسة العمل العام لعقود طويلة.

يدين الإخوان المسلمون، برأيي، بكل النجاحات، أو قل المعجزات، السياسية التي حققوها في الفترة الأخيرة للدكتور محمد بديع المرشد العام للجماعة الذي غيّر من مفهوم المنصب الذي يعتليه. لم يعد المرشد العام مجرد مرجع ديني او فكري أو أيديولوجي كما اعتاد الإخوان في الماضي، فقد أضاف بديع إلى منصب المرشد العام أبعاداً أخرى قيادية وحركية وتنظيمية وسياسية واجتماعة. وللإنصاف لم يكن بديع ليضيف هذه الأبعاد لمنصب المرشد العام لو لم يكن يتمتع بشخصية بالغة الحنكة والذكاء والدهاء.

بلغ الدكتور محمد بديع أرقى درجات السلم الأكاديمي حيث تولى منصب رئيس قسم الباثولوجيا بكلية الطب البيطري بجامعة بني سويف بصعيد مصر. كما تولى بديع رئاسة مجلس إدارة جمعية الباثولوجيا والباثولوجيا الإكلينيكية لكليات الطب البيطري على مستوى مصر. ويقول موقع إخوان ويكي الإلكتروني، الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين، أن الموسوعة العلمية العربية، التي أصدرتها الهيئة المصرية العامة للاستعلامات عام 1999 وضعت محمد بديع بين أعظم مائة عالم عربي. لاحظ هنا أن الاعتراف بالأهمية العلمية للدكتور بديع صدر عن هيئة رسمية ناطقة باسم نظام حسني مبارك حين كان يحكم مصر.

والحق أن الدكتور محمد بديع لم ينبغ في مجال الطب البيطري فحسب، ولكنه نبغ أيضاً في مجال العمل السري بجماعة الإخوان المسلمين التي ترقى بها بها حتى بلغ منصب المرشد العام. ويشير موقع الإخوانويكي إلى أن بديع حُكِم عليه ثلاث مرات في خلال العقود الخمسة الماضية في قضايا تتعلق بنشاط جماعة الإخوان حين كانت محظورة. كانت المرة الاولى عام 1965 في قضية سيد قطب الشهيرة وحكم عليه بالسجن 15 سنة بينما كانت الثانية عام 1998 في قضية جمعية الدعوة الإسلامية وسجن بسببها 75 يوماً، أما الثالثة فقد كانت عام 1999 في قضية النقابيين وحكم عليه فيها بالسجن 5 سنوات. وقد تولى الدكتور محمد بديع قيادة جماعة الإخوان المسلمين في يناير عام 2010، أي قبل عام من الثورة التي أطاحت بنظام مبارك.

الأمر الذي سيذكره التاريخ من دون شك لمحمد بديع هو دوره البارز في ثورة 25 يناير، وهو الدور الذي لم يتحدث فيه الكثيرون حتى وقتنا هذا ولم تبرزه جماعة الإخوان لأن وقت الحديث فيه لم يحن بعد على ما يبدو. ولكن من المؤكد أنه حين يحين موعد حديث الإخوان عن دورهم الحقيقي في ثورة يناير فإن المفاجأت ستنهال على جموع المصريين الذين تم إقناعهم، أو قل خداعهم، بأن الثورة لم تكن لها أيديولوجية محددة وإسلامية على وجه التحديد، وأن الشارع كان الأب الشرعي لها، وأن الشباب المتعلم والمثقف وغير الموالي لأية جماعة دينية أو حزبية هم من أشعلوها.

كان دور الدكتور محمد بديع في ثورة يناير، برأيي، محورياً رغم أنه لعبه في الخفاء وخلف الأبواب المغلّقة. بدأ هذا الدور حتى من قبل أن تندلع شرارة تظاهرات 25 يناير حين تم السماح لقيادات الإخوان بالاندماج بقوة في حركة كفاية وتم دفع شباب الإخوان للانخراط بعمق في حركة 6 أبريل بغرض فرض غطاء جماعي ووطني على الدور الإخواني. بالطبع لم يكن عمل الإخوان مع القوى السياسية الأخرى نوعاً من الإيمان بأهمية هذه القوى، ولكنه كان بهدف التخفي خلفها ودفعها في مقدمة الصفوف حتى لا يواجه الإخوان مباشرة بطش رجال أمن نظام مبارك.

وبالفعل نجح شباب وقيادات الإخوان في قيادة الحركات المعارضة لنظام مبارك ولكن من الخطوط الخلفية ومن دون أن يظهروا في الصورة على أنهم القوة المحركة الأقوى والأبرز. وبذلك شربت القوى السياسية المعارضة، من دون استثناء تقريباً، طعم الإخوان ووقعت في فخها حين تم إقناعها بالدفع بشبابها في مقدمة صفوف تظاهرات 25 يناير. ولعل الجميع يتذكر أعلان الإخوان رسمياً عندها عدم مشاركتهم في التظاهر. ولكن هذا الإعلان لم يكن إلا مناورة لخداع نظام مبارك. فقد شارك الإخوان بكثافة، ولكن مشاركتهم كانت من الصفوف الخلفية بهدف التخفي وأيضاً الحفاظ على ثروتها البشرية من رصاص رجال أمن نظام مبارك.

وحين نجحت تظاهرات 25 يناير في تحقيق أهدافها بجس نبض نظام مبارك، وحين أدرك الإخوان انهيار أسس النظام العتيق والمهلهل بصورة تجعل من سقوطه أمراً مؤكداً في حال تمت مواجهته بكثافة جماهيرية وضغط متشعب بكافة أنحاء الجمهورية نزل الإخوان بكل ثقلهم في تظاهرات 28 يناير. ونجح الإخوان في ذلك اليوم في هزيمة رجال أمن نظام مبارك. كما اقتحم الإخوان السجون وأفرجوا عن رجالهم ورجال حركة حماس وحزب الله وألاف البلطجية بغرض الإجهاز تماماً على نظام مبارك الذي كان يحتضر وينتظر اللكمة الأخيرة في رأسه ليسقط بالضربة القاضية.

لم تكن كل هذه الأمور لتحدث بكل هذه السرعة والسهولة لو لم يكن الدكتور محمد بديع يتمتع بالذكاء والدهاء اللازم لقيادة القوى المعارضة في معركة هزيمة نظام مبارك. دهاء بديع يتجلى أولاً في الخطة المحبكة التي أعدها لاختبار مدى ضعف نظام مبارك في 25 يناير، وثانياً في إقناع قيادات معارضة، منها من هو مختلف أيديولوجياً أو سياسياً أو دينياً مع الإخوان، مثل محمد البرادعي والسيد البدوي وحمدين صباحي وجورج إسحاق وأيمن نور ونجيب ساويرس بالوثوق بالجماعة أو حتى بالتحالف معها بصورة أو بأخرى من دون أن يعوا أنها تتحكم تماماً في مسار الثورة، وثالثاً في قيادة الثورة وتحييد القوات المسلحة حتى 11 فبراير حين تنحى مبارك، ورابعاً في إقناع نحو نصف القوة الانتخابية في مصر بالتصويت لجماعته رغم السلبيات الكثيرة التي تحيط بالجماعة وعدم التزامها بوعودها.

لقد فعل بديع ما فشل فيه سبعة مرشدون من قبل، ولا شك في أن جماعة الإخوان تدين بالفضل في كل ما حققته في العام الماضي وتحققه اليوم وستحققه في المستقبل للدكتور لهذا الرجل الذي سيجني في المرحلة القادمة ثمار دوره. سيصبح بديع في الفترة القادمة هو الحاكم الآمر في مصر، بلاد المحروسة سابقاً. وإذا كان الإخوان رشحوا خيرت الشاطر، أحد صقور الجماعة، لرئاسة مصر، فإن الرجل القوي في مصر في الفترة القادمة لن يكون خيرت الشاطر، ولكنه سيكون الشاطر الحقيقي في جماعة الإخوان، الشاطر محمد بديع لانه هو الذي أسقط نظام مبارك وهو الذي أدار، بمهارة يحسد عليها، أدوات ثورة 25 يناير تماماً كما كان العبقري جاري كاسباروف يحرك أدوات لعبة الشطرنج.

تشهد ثورة 25 يناير على عبقرية الشاطر بديع، ولكن من المؤسف أن عبقرية الرجل لن تفيد مصر، بل ستضرها بشدة لأنها ستعيدها قروناً إلى الوراء تحت حكم الإخوان. لن تتأثر مصر وحدها بالحكم الرجعي للإخوان، ولكن منطقة الشرق الأوسط بكاملها ستتأثر سلبياً به والعالم بأسره أيضاً سيناله نصيب كبير من الألام المترتبة على حكم الإخوان. بالاستيلاء على الحكم في مصر بلغ الإخوان هدفهم الأول في سلسلة الأهداف التي يسعون لأن تقودهم إعادة دولة الخلافة الإسلامية حول العالم. سيتحالف الإخوان في مصر مع الأنظمة الإخوانية الأخرى في المنطقة، وسيسعون جميعاً لزعزعة استقرار الدول التي لا يحكمونها حتى يسقطون أنظمتها ويحققون حلمهم بدولة الخلافة. إنها عبقرية الشاطر بديع التي تفيد جماعة واحدة ولكنها تضر بشعب ووطن ومنطقة وعالم.

[email protected]