شاهدت على الفضائية العراقية حلقة من مسلسل يحمل عنوان quot;حب في القريةquot;. للأسف لا أملك ما يكفي من النقود لكي أفرغ غضبي واكسر جهاز التلفزيون. ولكني هدأت وبكبسة زر غيرت الساتلايت لأشاهد برامج ممتعة من قناة ديسكوفري.

أعرف أن الضمير قد مات في وطني. رحمه الله، أعني الضمير وليس الوطن فلا يزال فيه بقايا روح نعول عليها. لكن هذه الروح خائفة ومنزوية!

أعرف ولا أريد أن أعرف كيف تتشكل المافيات في كل مؤسسات الدولة بدءً من رئيس الجمهورية مروراً برئيس الوزراء وإنتهاءً بالوزارات ومؤسسات الدولة ومنها الفضائية العراقية. وكل واحد من كل هؤلاء له حسينية فضائية وجامع فضائي. يبث من خلالها الأفكار الخرافية. وأعرف أنها مرحلة طارئة نهايتها ستكون فاجعة وسوف يدفع ثمنها للأسف المواطن العراقي الطيب صاحب الروح الهادئة المنزوية.

توافد على إدارة الفضائية العراقية عدد من رجال المافيات. يأتي المدير. يتقاسم الغنيمة مع لجانه وأقسام دولته التلفزيونية وبعد أن يكتفي ولا يكتفي يتم تعيينه في وزارة الخارجية سفيراً للبلاد في بلدان الخليج أو في بلدان أوربية كنوع من العقوبة! وكل الذي قدمه ذاك المدير هو إمتهان لثقافة العراق ومسخ الشخصية العراقية.

الفضائية العراقية هي قناة حكومية بإمتياز. وصورة لرداءة الواقع السياسي العراقي بإمتياز، الواقع السياسي العراقي ممثلا برئيس البلاد ورئيس الحكومة والبرلمان. المؤسسات الثلاث التي تنهب الوطن بدون رحمة وبدون حساب وبدون عقاب ويترك المواطن رهين العذاب، فيما صبايا العراق يتسابقن على صناديق القمامة للتزود بالملابس القديمة والطعام وقناني الماء البلاستيكية الفارغة لبيعها على معامل المشروبات وبعضهن يسقطن في الحرام. فيما لو كانت الفضائية العراقية على سبيل المثال تتمتع بالحرية ويترأسها شخص يملك quot;بقاياquot; ضمير ليحولها إلى قناة تنتمي للناس وليس للسلطة فتكشف هذا الواقع بروح الوطنية والحنان عبر الأعمال الدرامية والوثائقية، لشعرنا أن في الوطن صوتاً يمكننا في الأقل التشبث بذبذباته وموجاته الأثيرية ولو عن بعد. الفضائية العراقية في شكلها الحالي تشبه في أيديولوجيتها القناة التلفزيونية التي كان يديرها الصحاف سيء الصيت ولكن بصيغة أكثر رداءة من ناحية الشكل وتقنية الإنتاج والبث. كانت تلك القناة صورة للدكتاتور واليوم يعاد تركيب القناة لتصبح صورة للدولة يديرها ذات الشخوص الذين غيروا الشوارب باللحى.

quot;حب في القريةquot; المسلسل التلفزيوني لا ينتمي إلى الدراما لا من قريب ولا من بعيد. ويبدو أن صيغة من الأداء والدراما بدأت تسود الثقافة المرئية العراقية وهذه الصيغة تمثل نهج الدولة القائم على السخف والكذب. وهم أي الأعلاميون يظنون بأن المتلقي العراقي شخص غبي سوف يفرح كثيراً بوسائل مسخ الشخصية العراقية عبر تلبسها بالطريقة التي شاهدتها.

الدلالات لمثل هكذا دراما تتمثل في:
أولا ndash; هناك نهج تجهيل وثقافة جهل وإستخفاف بعقل المواطن
ثانيا ndash; وجود مافيات داخل المؤسسة تستفيد من إحالة الأعمال الدرامية إلى مؤسسات إنتاج على حساب مسخ الشخصية العراقية ومسخ الواقع العراقي وتحويل الشخصية العراقية إلى شخصية مسخ لا تدعو للأحترام ولا تعبر عن تاريخ وطيبة أهل العراق. بل أن الشخصيات التي يتم أداءها والموضوعات المطروحة هي بمستوى نهج الدولة السياسي والديني وغير المعرفي.

ثالثا ndash; الشخصيات التي تؤدي الأدوار في المسلسلات العراقية تفتقد إلى الكاريزما فيما الممثل عادة شخصية محبوبة وجذابة حتى في أدواره الشريرة. وهذا يعكس صورة شخصيات الدولة الحاكمة بالضرورة العلمية التي تفتقد هي الأخرى إلى الكاريزما وهذا متأت من الشرور الداخلية ورغبة الإنتقام والتخلف الفكري والثقافي ونهم النهب السائد. أنا أكاد أن أكون متأكدا بأن أي من هؤلاء الأشخاص الذين يحكمون الوطن لم يقرأوا روابة ولا ديوان شعر ولم يشاهدوا مسرحا ولا فيلما سينمائيا ولا يعرفون من الثقافة شيئاً وهم مشغولون بالنهب فحسب ولذا فهم مسرورون بما يعرض ويبث. ولذلك تأتي مؤسستهم الأعلامية (الفضائية العراقية) صورة لدولتهم وحكومتهم. والفضائية العراقية ليست الوحيدة التي تمثل نهج الدولة فهناك فضائيات تمثل نهج شخصيات الدولة ومجالسها المختلفة والمتصارعة وكلها تصب في ذات النهج دون أن تعرف مصادرها تمويلها، لكن الفضائية العراقية هي فضائية الدولة التي بدلا من أن تتحول إلى بي بي سي البريطانية تحولت إلى تلفزيون بغداد أبان حقبة الدكتاتور وينبغي إنقاذها.

رابعا ndash; لم تكن لشخصيات المسلسل quot;حب في القريةquot; علاقة بالشخصية العراقية التي نراها في الحياة، في الريف العراقي الطيب، في الحارة العراقية الطيبة، في المضيف العراقي الطيب، في عراق المهجر الطيب الحزين.. على الإطلاق. هي شخصيات ممسوخة. مطلوب مسخها حتى يبقى الوطن بدون روح وبدون قيمة جمالية.

خامساً ndash; يدعي أصحاب القنوات الإعلامية المرئية بأن الدين فيه محرمات ولا يجوز تقديم مشاهد تظهر فيها تلك المحرمات ومنها المرأة في حياتها الأعتيادية وفي مشكلاتها الكبيرة دون أن يدركوا بأن الحدث هو أساس الدراما وبدونه يتعذر البناء وتتعذر المعالجة بل وينتفي مفهوم الدراما. هناك قصص ذات بعد درامي في القرآن قالت كل شيء وبدون محرمات إذ لا توجد قصة بدون حدث درامي. جاء في القرآن الكريم:

بسم الله الرحمن الرحيم
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ

وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ

وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ

فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ

قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ

إنتهى ما جاء في سورة يوسف

هذه حكاية في القرآن ولكنه وردت بكل رغبات شخوصها الجنسية حتى يمكن بحثها ومعالجتها درامياً. لماذا هذا االموقف إذاً في عدم إتاحة الفرصة للمبدعين كي يناقشوا الواقع جدلا ولماذا يمنع المساس بالإنهيار الإجتماعي العراقي على صعد كثيرة. إن السقوط في الحرام إجتماعيا له أسبابه، فهو أما بسبب الواقع الإقتصادي للمرأة أو بسبب الحروب التي أودت بحياة الأزواج والذكور. يمنع عرض التدهور النفسي للمرأة العراقية بسبب الوحدة والعزلة والتحجب القسري وإنعدام رؤية الأفق فيما يسمح عبر مسلسلات كريهة حقاً من مسخ الشخصية العراقية وتقديمها للمواطن حتى صار أهل البلدان العربية الأخرى ينظرون للشخصية العراقية من خلال النموذج الذي تقدمه هذه المسلسلات الكريهة وصاروا يسخرون من الشخصية العراقية سواء في ملبسها أو في طريقة كلامها. وكل ذلك بسبب الصورة المشوهة التي تقدمها القنوات العراقية والفضائية العراقية بالذات.

أنهم يدعون عدم السماح للتحدث عن الحرام لأن وقوع المرأة في الحرام هو خط أحمر إعلاميا فيما الواقع هو غير ذلك سيما إذا ما جاء الحرام كحدث درامي بغية معالجته كما ورد في القرآن في سورة يوسف.

ايها السادة
الحرام ليس في كشف الواقع الإجتماعي وتقديمه ضمن صيغة تساعد في علاجه بروح إنسانية وثقافية عالية وهي مهمة الثقافة ومهمة الكاميرا بكشف الواقع الموضوعي بطريقة هادفة ومشوقة.

الحرام هو مسخ الشخصية العراقية ونشر ثقافة التجهيل. الحرام هو منع المبدعين من أداء أدوارهم في بناء الوطن. الحرام هو الإستفراد بالرأي وعدم سماع الرأي الآخر. الحرام أن تنهب ثروات المواطنين ويتركون يتامى. الحرام أن تكون للعراق قناة فضائية تنطق بإسم الحكومة المختفية في المنطقة الخضراء ولا يسمح للكاميرات أن تتخطى هذه المنطقة وتسمع رأي الناس سواء في مجال الأفلام الوثائقية أو في مجال الدراما. الحرام أن يمنع المبدعون من البقاء بعيداً عن أوطانهم كي يستفرد اللصوص بالوطن ويحيلونه في النهاية ركاماً.

كاتب وإعلامي عراقي مقيم في مشيغن

[email protected]