تبدي إيران براغماتية فائقة في القضايا الاستراتيجية الكبرى والمنعطفات الحاسمة، ولعل في تجربتي الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق أمثلة ساطعة على ذلك، وهي تتصرف على هذا النحو على قاعدة أنها دولة إقليمية كبرى قادرة على المناورة والتكتيك مع أمريكا واستراتيجيتها الرامية إلى السيطرة على العالم، وهي في براغماتيتها هذه لا تتواني عن الذهاب إلى حافة دائرة النار هنا أو هناك، دون ان تقطع خطوط التفاوض السرية مع واشنطن لإبقاء التسوية حاضرة على طاولة التفاوض عندما تحقق هذه التسوية المزيد من المكاسب لها على شكل اعتراف بالدور والنفوذ في الدوائر الجغرافية المحيطة بها. وعليه رغم اطلاق القيادة الإيرانية صفة الشيطان الأكبر على الولايات المتحدة الا أنها تبدي الاستعداد الدائم للتفاوض معها.
بعد عشر سنوات من التفاوض على الملف النووي الإيراني، وانتقال هذا الملف مرارا بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومجلس الأمن الدولي، وفرض واشنطن سلسلة عقوبات ضد طهران بما في ذلك عقوبات نفطية ومالية... بعد كل هذا يبدو اجتماع بغداد بين إيران والدول الكبرى وكأنه تسوية أمريكية ndash; إيرانية تتجاوز الملف النووي الإيراني إلى نوع من التفاهم على القضايا المتفجرة في المنطقة، من الخليج إلى الأزمة السورية مرروا بالوضع في البحرين ولبنان والعراق وليس انتهاء بأفغانستان، فمن الواضح ان محادثان فيينا الأخيرة وكذلك التصريحات التي أدلى بها المدير العام للوكالة الدولية للطاقة يوكيا امانو خلال زيارته الأولى إلى طهران بعد تسلمه منصبه والحديث عن رسالة أمريكية تتحدث عن مصالحة تاريخية تتجاوز الملف النووي الإيراني إلى ملفات المنطقة.. كلها مؤشرات توحي بأن ثمة اتفاق بات في الأفق، ولعل ما يشجع على مثل هذا الاعتقاد تلك الأزمة المالية المتفاقمة التي تعاني منها الدول الغربية والتي تجعل من الخيار العسكري ضد إيران خيارا مستبعدا على الأقل في المرحلة المنظورة، وتطرح بدلا منه إمكانية التعايش مع إيران نووية تحت الرقابة الدولية، فمثل هذا الخيار يبقى أقل كلفة، وربما أفضل لجهة الوصول إلى الداخل الإيراني أمل بربيع يجدد الثورة الخضراء التي تنتظر دورها من وهج الربيع العربي هذه المرة.
الحديث على هذا النحو لا يعني أن الأمور سهلة والطريق معبدة وان الصعوبات أزيلت أمام اتفاق منشود، فعلى الأقل كل طرف يريد لنفسه تحقيق أفضل الشروط والمكاسب من هكذا اتفاق، كما ان الثقة تبدو شبه معدومة في معركة عنوانها نووي ولكن جوهر الخلاف هو كيفية ترتيب المشهد في الدوائر المتفجرة في منطقة تحتل أهمية فائقة في الجيوستراتيجية العالمية سياسيا ونفطيا.
إيران لديها مطالب محددة، أهمها الاعتراف ببرنامجها النووي وتخصيب اليورانيوم إلى درجة محددة تسمح لها بانجاز برنامجها وإعادة ملفها النووي إلى الوكالة الدولية بدلا من مجلس ورفع العقوبات بما في ذلك النفطية التي فرضت عليها على خلفية ذلك، مقابل موافقتها على آليات دولية واضحة ومحددة لبرنامجها النووي، آليات تسمح بتفتيش كل منشآتها النووية ولاسيما تلك المشكوك بأنها تصنع أسلحة ذرية،وأن يكون تخصيب اليورانيوم بدرجة منخفضة، إضافة إلى ذلك تسوية على ملفات المنطقة، تسوية تعترف فيها إيران بأمريكا كقوة عظمى مقابل الاعتراف بإيران دولة إقليمية مؤثرة.
مع ان التأكيد على ان مثل هذا الاتفاق يثير جدلا كبيرا، ولاسيما من إسرائيل التي قال وزير دفاعها ايهود باراك انه يسمح لإيران بـ ( تحقيق انجازات تسمح لها بخداع العالم)، ملوحا من جديد بخيار مهاجمة المفاعلات النووية الإيرانية. فالاتفاق المذكور يخالف التصور الإسرائيلي الذي يرفض أي تعايش مع إيران نووية ويسعى جاهدا إلى منع ذلك سواء من خلال العقوبات السياسية والاقتصادية أو من خلال اللجوء إلى الخيار العسكري كما تقول. الا انه رغم الموقف الإسرائيلي هذا فان اجتماع بغداد يوحي بمرحلة جديدة من التهدئة بين أمريكا وإيران وان اختلفت حسابات كل طرف، الإدارة الأمريكية ربما تريد منع الانفجار في المنطقة من أجل انتخابات أمريكية يفوز أوباما فيها بولاية ثانية، وإيران تريد تعزيز أوراقها الإقليمية، ليس أقلها أعطاء دور الشرف لبغداد في انجاز اتفاق يضعها كلاعب في فريقها في الملاعب المتفجرة في المنطقة، ليبقى السؤال هل سيكون الدخان الأبيض للملف النووي الإيراني من سماء بغداد ؟