أثارت الزيارة التي قام بها رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني إلى تركيا عقب زيارته إلى واشنطن الكثير من الجدل ولاسيما بين الأكراد، إذ ان من مفارقات السياسة والأيام أن تتحول تركيا (العدو التاريخي للأكراد) إلى موقع البوابة المحتملة للاعتراف بدولة كردية بعد ان تحول إقليم كردستان إلى رقم مهم في المعادلات السياسة الجارية في المنطقة.
في الواقع، ثمة سر ما يقف وراء قول رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني: (إن الاستقلال آت لا محالة)، ويبدو أن ثمة أمل يكبر لديه بأن تصبح زياراته المتتالية إلى واشنطن وأنقرة بوابة للاعتراف بهذه الدولة التي ينتظرها الأكراد بفارغ الصبر، البارزاني يفعل ذلك لأنه يدرك في العمق أن إعلان استقلال دولة ما في يومنا الراهن، لا يمكن ان يكون دون قرار أمريكي (على الأقل هذا ما حصل إيجابا في حالة جنوب السودان وسلبا في حالة فلسطين)، وعليه فأنه يسعى إلى تحقيق ما يشبه القبول الإقليمي والدولي بخيار الدولة الكردية.
على المستوى الإقليمي يدرك البارزاني أن موقف تركيا يشكل الأساس أو المدخل لفتح نافذة في جدار الاتفاق الإقليمي المسبق على منع إقامة دولة كردية في المنطقة، وهو يدرك أيضا ان السياسة في النهاية تعني المصالح، وعند المصالح بات من الواضح أن ثمة كيمياء مشتركة بينه وبين القيادة التركية على وقع تفاقم خلافات الطرفين مع المالكي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو ما الذي تريده تركيا من البارزاني مقابل الاعتراف بدولة كردية؟ ثمة من يرى ان لتركيا ثلاثة أهداف من وراء تقربها من البارزاني بعد ان كانت تصفه حتى وقت قريب بزعيم عشائري قبل ان تفرش له السجاد الأحمر في قصر تشانقايا الرئاسي، وهذه الأهداف هي:
الأول : الضغط على حزب العمال الكردستاني لترك السلاح من أجل حل سياسي للقضية الكردية في تركيا وسط حديث عن مبادرة جديدة لرجب طيب اردوغان بهذا الخصوص على أن يتم ذلك في الدستور الجديد الذي يعد له اردوغان، وإذا لم يجنح حزب العمال إلى هذه الجهود عندها يكون الخيار العسكري المشترك ضده.
الثاني : الإبقاء على علاقات اقتصادية قوية مع إقليم كردستان المزدهر بعد ان بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين ما يقارب عشرة مليارات دولار وسط ازدهار غير مسبوق للشركات التركية في الإقليم.
الثالث: الاصطفاف إلى جانب تركيا في سياستها تجاه العراق الذي تحول إلى ساحة صراع إقليمية بين تركيا وإيران على أسس سياسية وطائفية واقتصادية في إطار الصراع التاريخي الجاري بين الدولتين على النفوذ والسيطرة على المنطقة ،وهنا تبدو أهمية الورقة الكردية في الاستراتيجية التركية كورقة قادرة على التأثير في الموازين.
في المقابل، ماذا يريد البارزاني من تركيا؟ دون شك يريد البارزاني بالدرجة الأولى دعما تركيا مفتوحا لإقليم كردستان الذي يقترب من وضع دولة، ومع تفاقم الخلافات بين البارزاني والمالكي باتت تركيا قوة جذب للبارزاني مثلما طهران هي قوة جذب للمالكي ومتكحمة فيه في الوقت نفسه، وفي المحصلة فان البارزاني يريد ان ينال موافقة تركية بدولة كردية تكون مدخلا للاعتراف بهذه الدولة. ومثل هذا التوجه غير بعيد عن السياسة الأمريكية التي بدأت تأخذ في الفترة الأخيرة شكل ممارسة الضغط الناعم على تركيا لدفعها إلى الاعتراف بالدولة الكردية مقابل مصالح تركية منتظرة، وقد كان لافتا ما نشرته صحيفة (شفق نيوز) التركية من ان رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (السي آي ايه) الجنرال ديفيد بترايوس طلب من أنقرة خلال زيارته الأخيرة لها أن تقدم الدعم لإعلان دولة كردية مستقلة في العراق لأن ذلك سيخدم مصالحها القومية. كما ان زيارة البارزاني الأخيرة إلى واشنطن أفضت إلى تشكيل لجنة للعلاقات الأمريكية ndash; الكردية في اعتراف أمريكي غير مباشر بالجانب الكردي كطرف مستقل وإقرار برسم استراتيجية للعلاقة الثنائية معه.
دون شك هذه العوامل والمتغيرات تشيران إلى وعي متعاظم بتطورات القضية الكردية وآفاقها ومخاطرها والمخاوف منها معا، من جهة على شكل قناعة تركية بأن تركيا لن تتمكن في النهاية من وقف مسار التطور الكردي باتجاه الدولة، وربما تطلعا إلى حل لهذا القضية وفقا لرؤية تركيا لمستقبل المنطقة في معركة التنافس على رسم مصير الشرق الأوسط،ومن جهة ثانية على شكل مخاوف تركية دفينة من ان ولادة دولة كردية في المنطقة ستفجر القضية الكردية في تركيا وحينها يصبح مصير تركيا نفسها أمام المجهول. مقابل المخاوف التركية هذه ثمة مخاوف كردية عميقة من ان يكون التقرب التركي من البارزاني في إطار السعي إلى إشعال فتنة كردية ndash; كردية على شكل حرب جديدة بين أكراد العراق وحزب العمال الكردستاني للقضاء على معاقل الأخير في جبال كردستان العراق بعد ان عجزت الطائرات التركية عن تدميرها والقضاء عليها حيث تعتقد تركيا أنه لا يمكن إيجاد حل للقضية الكردية في تركيا وفقا لرؤية حزب العدالة والتنمية في ظل وجود حزب العمال الكردستاني.
الثابت ان تركيا ترى في أي دولة كردية في المنطقة خطرا استراتيجيا عليها، لكن مشهد اليوم يطرح السؤال التالي: ماذا لو وجدت تركيا في الاعتراف بدولة كردية متحالفة معها طريقا إلى تحقيق مصالحها العليا؟ والسؤال الأخر: هل طريق البارزاني إلى الدولة الكردية يمر بتركيا حتى تحظى بدعم واشنطن؟ ربما المعطيات السياسية السابقة تشير إلى الإيجاب لكن الثابت ان تركيا ضد دولة كردية تفتح تركيا أمام المجهول، وعليه يبقى الخوف الكردي الدفين في أن يقع البارزاني الأبن في حب الباب العالي كما وقع البارزاني الأب في حب شاه إيران قبل أكثر من أربعة عقود، فتركيا تريد منه أداة لمصالحها لا بطلا قوميا يحقق حلم الأكراد القديم الجديد بدولة قومية تغير خريطة المنطقة.