اشعلت قضية النفط بين أربيل وبغداد المواجهة المضمرة بينهما، وهي مواجهة تتجاوز قضية النفط إلى قضايا العلاقة بين الجانبين والتي تبدو وكأنها أمام مرحلة مصيرية في ظل تكاثر المشكلات بينهما واللهجة الندية لإقليم كردستان العراق خاصة بعد التلميحات المتكررة لرئيس الإقليم مسعود البارزاني في الفترة الأخيرة إلى احتمال إعلان استقلال دولة كردستان، تارة باسم حق تقرير المصير وأخرى على خلفية تفاقم الخلافات المزمنة مع حكومة نوري المالكي بعد تفجر قضية طارق الهاشمي ورفض إقليم كردستان تسليمه إلى بغداد.
دون شك، قضية النفط واحدة من القضايا الأساسية التي تحدد على أساسها علاقة الإقليم بالمركز، ويبدو ان عدم انجاز قانون النفط حتى الآن رغم مرور قرابة عقد على انهيار نظام صدام حسين سببه رفض كل طرف لتصور الأخر بخصوص أحقية ملكية النفط وكمية الانتاج وإبرام العقود مع الشركات الأجنبية والعائد المالي ومن يدفع للشركات التي تستخرجه، فبغداد ترى أنها الجهة الوحيدة التي لها هذا الحق فيما الإقليم يرى أن له حق التصرف بموارده، وعلى هذا الأساس وقع أكثر من أربعين عقدا مع شركات أجنبية حيث تقول بغداد ان ذلك خارج صلاحية حكومة الإقليم.
بغض النظر عن الجدل الدائر بعد إعلان الإقليم وقف الانتاج إلى حين دفع بغداد المستحقات المالية والتي تقدر بمليار ونصف المليار دولار واتهامات بغداد له بتهريب النفط إلى دول الجوار (إيران وتركيا) وتخفيض كمية الانتاج من 175 ألف برميل يوميا إلى 60- 70 ألف برميل فان اللافت هنا، هو أنه كلما تأزمت العلاقة بين بغداد وإقليم كردستان، تعالت الأصوات الكردية الداعية إلى البحث عن المصير الكردي خارج العراق، حيث يعتبر الأكراد ذلك حقا طبيعيا لهم في إطار حق تقرير المصير في حين لا يتوانى البعض عن وضع هذا الخيار في خانة النزعة الانفصالية المضمرة، في وقت يسأل أخرون عن جدوى إقامة دولة كردية قومية في زمن تراجع الأيديولوجية القومية لصالح الدولة التعددية الديمقراطية،خاصة وأن إقليم كردستان العراق يعيش في وضع دولة حقيقة على الأرض على شكل أكثر من إقليم وأقل من دولة كما يقول السياسي الكردي محمود عثمان.
في الواقع، هذا الجدل المتعاظم بين الجانبين لا يقلل من أهمية تضافر جملة العومل التي باتت تشكل أسبابا ومقومات لإعلان دولة كردستان، ولعل من أهم هذه الأسباب والمقومات :
1- تفاقم الخلافات بين حكومة إقليم كردستان والحكومة العراقية على قضايا عديدة، لعل أهمها إضافة إلى النفط المادة 140 بشأن مصير مدينة كركوك والمناطق الحدودية المتنازع عليها، واللافت في زحمة هذه الخلافات اللهجة القوية للقيادة الكردية التي تصر على تحقيق المطالب الكردية دون نقصان وألا فإن البحث عن المصير الكردي خارج الشراكة العراقية يصبح أمرا واقعا.
2- تجربة الحكم الناجحة نسبيا في إقليم كردستان العراق وهي تجربة باتت تغري الأكراد للأستفراد بها بعيدا عن العراق ومشكلاته الداخلية العديدة .
3- توفر الموارد الأولية من نفط وغاز ومياه وعلاقات تجارية قوية مع إيران وتركيا .. بما يعطي كل ذلك الاحساس بالقدرة على الاستقلال وامتلاك مقوماته وممارسة الكيانية.
4 - مناخ الثورات العربية والتي فجرت مطالبة الشعوب بالحرية وطي صفحة الاستبداد مهما كانت طبيعته وشكله .
5- تجربة استقلال جنوب السودان والتي تبدو بالنسبة لأكراد العراق مشجعة ومغرية خاصة وأنها تحققت بموافقة المركز (الخرطوم) والدول الإقليمية المجاورة والمجتمع الدولي دون إراقة الدماء.
في الواقع، هذه العوامل المشجعة، هي التي تقف وراء اللهجة الكردية القوية بالبحث عن مصير كردستان خارج العراق إذا لم تلبي الحكومة المركزية مطالب الأكراد،ومن يدقق في أبعاد تصريحات مسعود البارزاني بشأن حق تقرير المصير للشعب الكردي، سيرى أنها تشكل انعكاسا لتنامي هذا الخيار في الداخل الكردي. فمجمل هذه الظروف والمعطيات عززت من الآمال الكردية بالبحث عن السيناريو المناسب لتلمس طريق الدولة الكردية، سواء من خلال خيار الاستفتاء على شكل استلهام لتجربة دولة جنوب السودان أو التوجه إلى الأمم المتحدة على غرار التجربة الفلسطينية لنيل اعتراف أممي بالدولة الكردية، أو حتى الإعلان من طرف واحد عن الدولة الكردية والتي لم تعد مجرد حلما مستحليا بل بات ممكنا بفضل المتغيرات والظروف الجارية،وربما ينتظر الأكراد حسم مصير قضية كركوك لصالحهم كي تكون الدولة المنشودة قوية وقادرة على تأمين الدعم المالي اللازم للاستمرار دون الحاجة إلى بغداد التي تخصص 17 بالمئة من ميزانية العراق للإقليم الكردي.
الخلاف النفطي الذي قفز إلى واجهة العلاقة بين بغداد وكردستان ليس سوى تعبير عن هذا الحال من العلاقة المضمرة بين الجانبين وإذا تفاقمت هذه الخلافات أكثر فربما نجد أنفسنا أمام بيان رقم واحد لإعلان استقلال الدولة الكردية حيث يفكر البارزاني بذلك مليا، فهو يريد أن يدخل التاريخ كأول زعيم كردي نجح في تحقيق الاستقلال للأكراد في العصر الحديث.