أثار مطلب إقليم برقة الليبي بالفيدرالية جدلا واسعا بين من رأى فيه مطلبا طبيعيا منبثقا من السياق التاريخي والاجتماعي والدستوري للإقليم منذ كان فيدراليا عقب استقلال ليبيا وحتى عام 1964 ، أي تاريخ إلغاء القذافي لحكم الإقاليم وإبداله بحكم شديد المركزية مرتبط بشخصه، وبين من رأى فيه خطوة خطيرة نحو تقسيم البلاد بعد أن تمكن الناتو من إسقاط حكم القذافي، وانطلاقا من هذا البعد وضع البعض مطلب الفيدرالية في خانة الامبريالية والاستعمار والتقسيم، بل وصل الأمر إلى حد تشبيهه باتفاقية سايكس بيكو التي قسمت دول المشرق العربي.
في الواقع من يدقق في التطورات الجارية في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة لا بد ان يتوقف عند ظاهرتين:
الأولى: الفشل الذي يلاحق الدولة المركزية ، بوصفها دولة انتجت الدكتاتورية والشمولية وقضت على التعددية والتنوع والحرية، وغالبا ما تم ذلك باسم الوحدة الوطنية، وكأن الوطن لا يعترف بهذه الهويات وحقوقها !. وعلى الصعيد التنمية والنمو لا تجد سوى كلمة الفشل من وصف حصيلة هذه الدولة.
والثانية: إصرار المكونات القومية والثقافية والدينية المختلفة على التعبير عن مكنونها وذاتها وهويتها الاجتماعية والحضارية، واستعددادها للدفاع عنها مهما طغت سطوة الدولة المركزية، ومهما كانت الشعارات التي ترفع هنا أو هناك.
وحقيقة، من يدقق في هذه المعادلة ، سيجد أن مطلب إقليم برقة الليبي غير بعيد في سياقه التاريخي والمعرفي والسياسي والاجتماعي عن تجارب كثيرة تشهدها منطقتنا، فمن تجربة كردستان العراق إلى تجربة جنوب السودان وجنوب اليمن وغيرها، سيرى أن ثمة إحساس عميق بأهمية هذه التجربة وإمكانية ان تقدم حل أو حلول للمشكلات العربية المزمنة المتعلقة بالحكم وشكله، وعلاقة المركز بالإقاليم، وعلاقة الحاكم بالشعب والسلطة والمؤسسات وأجهزتها.
بعيدا عن التذكير بالتجارب الفيدرالية الناجحة في العديد من دول العالم، كالولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا وغيرها من الدول والتي تتراوح إشكال الحكم فيها الفيدرالية والكونفيدالية بأشكالها المتعددة، فأن الفيدرالية في منطقتنا وخاصة بالنسبة لأصحاب النظريات الأيديولوجية القومية والدينية ما زالت فكرة غريبة وغربية قادمة عبر الأطلسي، بمعنى أخر فأن منطقتنا تفتقر إلى ثقافة الوعي بالفيدرالية ومفاهيمها على صعيد الإدارة والحكم وأسلوب التنمية والأهم ضمان الحرية لمكونات البلاد في المشاركة بالحكم والتعبير عن ذاتها، ولعل هذا الافتقار إلى هذا الوعي التاريخي والسياسي يدفع بالعديد إلى رفض الفيدرالية دون التمعن في فوائدها المستقبلية مع ان البعض بات يرى فيها طريقة وحيدة لتوحيد الدول التي فيها أقليات قومية وبنى اجتماعية ودينية مختلفة ( كالسودان والعراق وليبيا... ) بعد ان قطعت الأقاليم في هذه الدول أشواطا بعيدة في التأسيس لبنية محلية في الحكم والإدارة والإقتصاد والتعبير عن الذات السياسية والحضارية.

ولعل الأمر المهم هنا، هو ان ثورات الربيع العربي والتي وضعت المنطقة أمام مرحلة جديدة لم تعد تقبل بصيغة الدولة القمعية التي قامت أساسا على المركزية وسلطة الحاكم الأوحد، فهذه الثورات وضعت الجميع أمام امتحان الديمقراطية والحرية والتعددية،وهذه مفاهيم ينبغي ان تتجسد في الدساتير والقوانين الكفيلة بخفظ الحقوق وممارستها في إطار دولة المواطنة. والثابت هنا، هو ان كلما وصلت الدولة المركزية إلى نقطة مسدودة تبدو معها الفيدرالية حلا لمشكلة الحكم، بغض النظر عن طبيعة هذه الفيدرالية وخصوصيتها، سواء أكانت لها طابع قومي أو إداري أو أجتماعي أو ديني - طائفي.

مع التأكيد على تزايد الأصوات المطالبة بالفيدرالية على وقع ثورات الربيع العربي، فأنه ينبغي القول أن المخاوف من الفيدرالية لا تقتصر على أصحاب الدولة المركزية وحدها، ففي أحيان كثيرة تلقى مخاوف مماثلة من الدول الجوار الجغرافي للعالم العربي وأن كانت لأسباب مختلفة،ففي حالة إقليم كردستان العراق ثمة مخاوف تركية وإيرانية وسورية من احتمال ظهور هذه الحالة لديها نظرا لتوزع الاكراد جغرافيا بين هذه الدول.
في الواقع، تتطلب العقلانية التعامل مع الجدل الجاري في العالم العربي بشأن الفيدرالية من زاويتين مهمتين. الأولى: على انها تقدم الحل لمشكلة مزمنة هي مشكلة الشعوب والأقليات القومية والدينية ضمن الدولة الواحدة.

والثانية: انها تقدم الحل لإشكالية الحكم في دولة يصعب قيادتها مركزيا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو إذا كانت الفيدرالية تقدم الحل لهاتين المشكلتين المزمنتين عربيا فألا تستحق من الجميع التوقف عندها وإعطاء الفرصة لها بعيدا عن الشعارات الجاهزة والتي تساويها بالتقسيم والخيانة؟
أنها قضية تستحق المزيد من التفكير والتأمل قبل الحكم عليها بالرفض، لطالما أنها تتعلق بمستقبل معظم الدول العربية وشكل الحكم فيها.